نهاية حروب التحرر الوطني ومعناها
السؤال لماذا انتهت حروب التحرر الوطني؟ وهل انتهت؟ وما معنى ذلك؟
الجواب هو في انتهاء عهد الاستعمار القديم أو شكله، امتلأت يابسة الكرة الأرضية وجزرها بالدول. صار عددها يقارب المئتين. كلها تقريباً أعضاء في الأمم المتحدة. لم يعد هناك دولة تحتل “دولة”، بالأحرى أرضاً خارج حدودها، إلا فيما يختص بمناطق متنازع عليها. حق تقرير “المصير” الذي جاء به الرئيس ويلسون عقب الحرب العالمية الأولى في مؤتمر باريس، قررته تقسيمات قوى الاستعمار القديم أكثر مما قررته الشعوب. انتهى العالم الى دول حدودها عشوائية.
صار شائعاً استخدام تعبير الدولة-الأمة. يعني ذلك أن الأمة هي ما يقع ضمن حدود الدولة المرسومة سلفاً. رسمها الاستعمار أكثر مما رسمها التاريخ. أنشأت هذه الدول تاريخاً لها أطلق عليه بندكت أندرسون لقب الجماعات المتخيلة لوصف الأمم التي تدعي أنها تشكيلات تاريخية. كل منها اعتبرت نفسها أمة استعادت أرضها. لم يعد هناك متسع لدول جديدة إلا بتقسيم الدول الموجودة، وهذا الأمر غالباً ما يتطلّب حرباً أهلية وتدخل دول كبرى وظروفاً مناسبة. إن مطالبات بعض الإثنيات بالاستقلال غالباً ما تلاقي قبولاً من الجميع خاصة من حاكم البلد المطلوب الانفصال عنه، وإذا دعمت الدول العظمى مثل هذا الاتجاه في بلد ما، يكون للأمر أهداف أخرى غير الاستقلال.
في عام 1648، نشأت الدولة الحديثة، بالأحرى التي صارت حديثة، في أوروبا في أعقاب حرب دينية عمت القارة الأوروبية لمدة ثلاثين عاماً. حصل ذلك في أعقاب حركة “إصلاح ديني” واجهته حركة مضادة، وكلاهما نشأ عن تطوّر ما يُسمى “الرأسمالية الميركنتلية” الأوروبية التي لم تكن ممكنة لولا “الاكتشافات” التي حصلت في القرن السادس عشر، ومد نفوذ الدول الأوروبية الى القارات الثلاث. أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. أوستراليا حالة خاصة. النفوذ كان تجارياً وسياسياً حتى منتصف القرن التاسع عشر، ولم يتحوّل الى احتلال بحري وبري إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. أي بعد الثورة الصناعية التي يؤرخ لها أنها بدأت في بريطانيا في بداية القرن التاسع عشر ولحقتها الدول الأوروبية. في سبعينات وثمانينات القرن 19 حصل تقاسم بقية العالم غير الأوروبي في مؤتمر عقد في برلين.
في تلك الفترة التي انقضت، ثلاثة قرون (17، 18، 19)، تم تحرير القنانة، أي الفلاحين الملتصقين بالأرض والولاء للاقطاعيين وتحويلهم الى مواطنين أحرار. وحصلت هجرتهم الى المدن الصناعية “كعمال” أحرار لا يملكون شيئاً سوى قوة عملهم لبيعها في سوق العمل الصناعي، وفي سوق الجيوش التي ستنشرها الدول الأوروبية في أنحاء العالم بحرياً وبرياً.
في الحرب العالمية الأولى انهارت الامبراطوريات الثلاث: العثمانية والنمساوية والروسية. تحولت روسيا الى النظام السوفياتي، والنمسا الى دولة صغيرة دون أحلام، وتركيا الى دولة متوسطة، علمانية في البداية ثم استعاد أحلامها العثمانية أردوغان على أساس طموحات إسلامية أصولية الطابع. في مؤتمر باريس عقب الحرب العالمية الأولى، تم رسم حدود الدول التي خضعت للاستعمار، عشوائياً في معظم الأحيان. الحدود العشوائية أدت الى الكثير من المنازعات والهجرات والتطهير العرقي. وهذا التعبير لم يُستعمل إلا في أعقاب تفكك يوغوسلافيا. رافق الهجرات في الحرب العالمية الأولى والثانية وفي أعقابهما حروب إبادة جماعية.
كانت “عصبة الأمم” التي أنشئت في أعقاب الحرب العالمية الأولى أشبه بمجلس إدارة الاحتلالات حول العالم. لم تنضم الولايات المتحدة الى عصبة الأمم التي ساهم الرئيس ويلسون في إنشائها ورفضها مجلس النواب الأميركي. كانت الولايات المتحدة قد مدت نفوذها على القارة الأميركية الجنوبية والوسطى، لكنها كانت أيضاً بلد استعمار احتلالي، كما حدث في الفيليبين في أواخر القرن 19، وفي بعض جزر المحيط الباسيفيكي. ومن هنا نشأ الوهم أنها لم تكن بلداً استعماريا. أقر مؤتمر باريس وعصبة الأمم مبدأ “حق الشعوب في تقرير المصير”. ولم يكن بعدها تحديد للشعوب إلا حدود الدول التي رسمها الاستعمار عشوائياً. في كل دولة مستعمرة كان هناك تعدد إثنيات “وشعوب”. لكن المعترف به حقوقياً ودولياً هو فقط حدود الدول” فكان هناك تداخل كبير بين الحدود والشعوب؛ إذا كان كل “شعب” له امتدادات داخل حدود دول مجاورة لا تشاركه القومية.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية اتسع نطاق حروب التحرر الوطني لتشمل قارتي أسيا وأفريقيا. بالطبع، لم تراع دول الاستعمار الأوروبية مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير، بل رفضت تطبيقه. صارت حروب التحرر الوطني حروباً شعبية. كان الوهن قد أصاب اوروبا في الحرب العالمية الثانية، لكن رأسماليتها بقيت قوية وجيوشها ممتدة. لم يكن بإمكان الشعوب المستعمَرة (بفتح العين) تحقيق الاستقلال إلا بحروب شعبية. حروب الضعفاء ضد الأقوياء. حروب غوريلا أنهكت جيوش الاحتلال.
هكذا حدثت الموجة الثالثة من نشوء الدول. الموجة الأولى في أوروبا القرن السابع عشر بعد الحروب الدينية؛ الموجة الثانية في أميركا اللاتينية؛ الموجة الثالثة بعد الحرب العالمية الثانية في أسيا وأفريقيا. صارت الكرة الأرضية كلها دولاً ذات سيادة. زال الاستعمار بمعنى الاحتلال. بقي الاستعمار بمعنى النفوذ ومناطق النفوذ. ما عادت الدول الغربية تحتل ما سُمي بالعالم الثالث بالجيوش البشرية لنهب خيراتها. صار الاحتلال بالمال. بالرأسمال أو ما يسمى الاستثمار. آلية هذا الاستعمار الجديد المسمى امبريالية جديدة، هي اجبار دول العالم الثالث على الاستدانة وإغراقها بالديون. عندما تعجز هذه البلدان عن الوفاء تتدخل الدول الدائنة (الغربية) وتفرض برنامجها على البلد المدان وغالباً ما يكون ذلك باستحواذ عقارات أساسية والمرافق العامة. الاستدانة العامة لم تكن تقررها حاجات للدول المدينة بقدر ما هي حاجة للبلدان الدائنة. منذ قرون، كان ذلك واحدة من آليات السيطرة على البلد الذي يراد اخضاعه، لكنها أصبحت الآن بعد هيمنة الليبرالية الجديدة وازدياد أهمية المال في النظام العالمي الآلية الوحيدة، أو الرئيسية ان لم نرد المبالغة. الهجوم “بأساطيل وجيوش” المال. رغم المساعدات الانسانية والقروض التي تقدم بشكل مساعدات مالية، يبقى ثمن الاستدانة عالياً. يخضع البلد المدان للبلد الدائن. قديما أيام الرومان، كان المدان الذي لا يستطيع إيفاء دينه يصير عبدا للدائن.
لم تعد العلاقة بين البلدان المتقدمة والعالم الثالث قائمة على تصدير المصنوعات واستيراد المواد الأولية للبلدان المتقدمة. صار تصدير المال والصناعات (المعامل الصناعية) والأسلحة والمواد الغذائية خاصة القمح ومنتجات الحيوانات هي المواد الأساسية التي يتم تصديرها باتجاه العالم الثالث. يلعب المال دوراً أساسياً في ذلك، بل الدور الأساسي. كذلك تصدير التعذيب والديكتاتورية من بلدان ديمقراطية تُعنى بحقوق الانسان الى بلدان يحكمها طغاة وعلى استعداد دائم لكبت وقمع سكانها، ومنع النقابات، وحجب التقديمات الاجتماعية من قبل الدولة، لإبقاء الأيدي العاملة رخيصة المنال.
الحروب الآن هي إما بين الدول، وهذه غير حروب تحرير شعبية. حروب تخوضها الدول بجيوش نظامية؛ وإما حروب ضمن الدول. وهذه حروب أهلية. انتهى الاستعمار الاحتلالي، فلم تعد هناك حروب تحرير شعبية بمعنى حرب الشعب في الأرض المحتلة ضد جيش الدولة الاحتلالية.
ربما كان الوضع في فلسطين مختلفا عن بقية العالم. اسرائيل تعلن الدولة بحدود غير ما تضمره. تعتمد في التوسّع على القدرة العسكرية لإرهاب الفلسطينيين وعلى سياسة قضم الأرض. تعترف بالشرعية الدولية وتعمل بما يخالفها. حدودها المعلنة منذ 1948 غير ما اعترفت لها بها الأمم المتحدة. أما الفلسطينيون فهم منذ بداية التسعينات اعترفوا بحل الدولتين غير المطبّق حتى الآن. لاسرائيل الدولة وقوة الدولة وممارساتها، وللفلسطينيين دولة لا دولة؛ في معاهدات الصلح لها صلاحيات لم تصل إليها. ما يُسمى دولة فلسطين أشبه ببلدية لا تملك من مقومات الدولة شيئاً. هي مستعمرة تخضع لاسرائيل وفي الوقت عينه يقول عنها المجتمع الدولي أنها دولة، ويتعامل معها على هذا الأساس. في الجزء المعترف به دولياً لفلسطين، يبني الاسرائيليون مستوطنات تصير مع الزمن تابعة لاسرائيل لا لسلطة الأرض التي تحيط بها. الدولة الفلسطينية المزعومة صارت دولتان. واحدة في الضفة وأخرى في غزة. معاهدات تقرها الأمم المتحدة وتنفذها اسرائيل، فتكون النتيجة غير ما أُقِرّ. الأنكى من ذلك، الانقسام الحاصل بين سلطة الضفة وسلطة غزة. كل منهما أيضا يتكلّم بخطابين، واحدة للعلن وواحدة مضمرة. في نفس الوقت يتحدث الفلسطينيون بخطاب عربي حيناً وإسلامي حيناً آخر. سحبت اسرائيل فلسطين من نظام دول دولي يعم العالم؛ وتؤيدها الولايات المتحدة والدول العظمى في ذلك. اسرائيل دلوعة هذا العالم. عربياً لا نعرف هل المواجهة تعني مقاومة أو ممانعة. لسوريا ممانعة ولحزب الله مقاومة. على كل حال كلاهما دفاعي ولا يخوض حرب تحرير شعبية ضد احتلال هو حقاً احتلال، مع إغفال لقضية الدولة في لبنان؛ ليست المقاومة جزءاً منها ولا خارجها. وضع متفرّد في العالم. لكنه في النهاية ليس حرب تحرير شعبية؛ بل هي حرب نظامية بين جيش رسمي وآخر غير رسمي لأنه مستقل عن الدولة التي يعمل على أرضها. اسرائيل شعب الله المختار تعتبر نفسها غير بقية العالم، وفي نفس الوقت يتعامل معها الفلسطينيون والعرب (والمسلمون عامة) على هذا الأساس. على كل حال ليس في فلسطين حرب تحرير شعبية الآن.
مع صيرورة العالم الى دول مستقلة ذات سيادة (ولو نظرياً)، ولكل دولة جيش، ماذا تفعل، أو يجب أن تفعل، شعوب العالم لمواجهة الاستعمار الذي صار امبريالية، وهذه امبريالية جديدة؟ أصبح الضعفاء دون حرب التحرير الشعبية، دون حرب الضعفاء ضد الأقوياء. دولهم لن تستمر (وجيوشهم البائسة) على طريق الحرب. الحرب عادة هي لفرض إرداة المنتصر على المغلوب. الشعوب التي استقلت بفضل حروب التحرير الشعبية لم تنتصر، بل صارت دولاً يفرض عليها الاستعمار المنسحب إرادته. نظرية كلاوسويتز بالمقلوب.
ما استطاعت الحكومات التي تسلمت أنظمة الحكم بعد الاستقلال إلا الاعتقاد أن لديها منة على شعوبها، إذ هي شاركت أو قادت حروب التحرر الوطني. لم تتجه الى التنمية وإدماج المجتمع وزيادة الإنتاج والرحرحة في إعطاء الحرية لشعوبها، بل اعتقدت أنها لديها منة على شعوبها التي يجب أن تقر بالجميل وتخضع لأنظمتها وتتقيّد بتعليمات المخابرات. وهي تعليمات القادة الملهمين. تدريجياً فقدت هذه الأنظمة شرعيتها وبلغ الظلم الذي مارسته حداً جعلت الشعوب تترحم على أيام الاستعمار. راكمت من الديون مبالغ سمحت للاستعمار أن يعود لتنظيم الأمور المالية، وبالتالي الاقتصادية. عادت هذه الأنظمة أو أعادت بلادها الى التبعية والخضوع للغزو المالي. مارست الاستبداد لدرجة غير مسبوقة، بحيث بدت مراحل الاستعمار وكأنها ازدهار ليبرالي. خرج الاستعمار من الباب ليعود من الشباك، متخذاً تسمية جديدة، وهي مناطق النفوذ الامبريالية. هي مناطق الاحتلال المالي. عسكر المال يعيد تجربة عسكر الاحتلال البشري. كان النظام الدولي، بعد الحرب العالمية الثانية، قد أنشأ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ثم منظمة التجارة الدولية؛ وفي عهد النيوليبرالية مؤتمر دافوس. بالطبع كان متوقعاً أن تصل الرأسمالية العالمية الى أزمة، وهي بدأت منذ أواخر السبعينات. وهي جعلت من الاستثمارات المالية آلية التحكم ببلدان العالم الثالث، الذي كان ثالثاً قبل سقوط الاتحاد السوفياتي. ساهم هذا السقوط في جعل بلدان الاستقلال الجديد أكثر تبعية وخضوعاً، أما الجماعات المعترضة فهي أطلقت ثورات اتهمت بالتكفير والإرهاب. سمي الأمر عولمة. هي في الحقيقة عولمة المال الذي كانت له السيادة منذ بداية الرأسمالية قبل أربعة قرون.
أزمة الرأسمالية هي ازمة فوائض مالية، لكن معظم أموالها في جنات ضريبية خارج وصول حكوماتها إليها. أزمة البلدان المتحررة حديثاً هي أزمة نقص في الفوائض المالية. تنسحب منها “الاستثمارات” لحظة ظهور “التعنت” عند حكومات التحرر الوطني. لا تستطيع حكومات هذه البلدان البرهان على سيادتها إلا تجاه شعوبها التي تضطر للإذعان لمختلف أنواع القسر والإرهاب والإكراه. تتفشى الفاشية في البلدان المتقدمة والأصولية الدينية في بلدان التحرر الوطني. تهم الإرهاب والتكفير مسلطة فوق رؤوس هذه الشعوب. داعش أو شبيهاتها جاهزة للنضال نضالاً مشبوهاً ومدعوماً من القوى العالمية. جمعيات المجتمع المدني وحقوق الانسان جاهزة لتوجيه التهم لأنظمتها وللثورات التي يمكن أن تنفجر ضد هذه الحكومات. الاستبداد وحده كفيل بتوليد الإرهاب. تضطر الأنظمة للانضواء تحت راية القوى التي كانت تحكمها لمحاربة الإرهاب، بالأحرى محاربة الحركات المعارضة لأنظمتها.
أنظمة التحرر الوطني في مأزق. هي مضطرة للانضواء في النظام العالمي ولمحاربة شعوبها التي كانت تقودها. امتلأت الكرة الأرضية بالدول. جميعها ذات سيادة مزعومة أو غير مزعومة. حرمت الشعوب من حروب التحرر الوطني أو حروب التحرير الشعبية. أمام الشعوب خيار واحد من اثنين: ثورة لقلب النظام أو حرب أهلية داخل الحدود. كثيراً ما تتحوّل الثورة الى حرب أهلية.