الحرية ٥ – الخطاب اللغوي في مجتمع مفتوح
خطاب اللغة في مجتمع حرية، المجتمع المفتوح، حيث الساحة العامة هي للنقاش والحوار والقرار في الشؤون العامة، هو خطاب تواصل وإفصاح. يكون للغة دورها الحقيقي وهو الإفهام. يتلقى الجمهور هذا الخطاب بثقة، ويقابله بالنقاش والحوار واثقاً من نفسه أيضاً. يخلو هذا النقاش من التبعية لأهل السياسة. لا تؤخذ أقوالهم وكأنها مقدسة. الساسة في الساحة العامة كتلامذة المدرسة يقدمون امتحاناً. إذ هم مضطرون الى النقاش فيما بينهم في حلقات عامة. يخضعون لامتحان يكرم المرء فيه أو يهان. وهم مضطرون في نقاشاتهم وحواراتهم الى الأخذ بقضايا الشعب والعمل على أساسها أو هكذا يريدون أن يصدقهم الناس. ربما خالفوا وعودهم إذا فازوا. يكون الناس في الانتخابات التالية بالمرصاد لهم.
لغة الخطاب في مجتمع من هذا النوع، المجتمع المفتوح، لغة مباشرة يتكلم الناس مع بعضهم البعض كما يتكلمون مع المرشحين. يناقشون قضاياهم فيما بينهم مثلما يناقشون مرشحيهم. نقاشاتهم جدية.
خطاب اللغة في نظام الاستبداد قائم على التعمية والكذب والنفاق. يردد الأتباع كلام الطاغية. يسعون لإرضائه فيكذبون. يسعون وراء رضاه. يلفقون المعلومات والتقارير كي يراها مرضية فيكذبون.
الناس لا يخاطبون بعضهم. كل يحاول أن يخفي ما يضمر. يطلب السلامة. يحتفظ بخطاب في نفسه ولا يفصح عنه. يعلن الخطاب الذي يُرضي الطاغية، وما يصلح للظهور في التقارير. يضطر المواطن أن يكون مزدوج الكلام، ومزدوج الشخصية. يُظهر غير ما يُضمر. يضطر الى احتقار نفسه. يضطر الى الاحتيال السياسي. الاحتيال ينال من استقامة ضميره. لا ينبع الكلام من ضميره. الأخلاق تنبع من الضمير لكنه يضطر الى مخالفة ذلك. تزول السياسة، ومع زوالها تزول الأخلاق.
يقاوم المجتمع اشتداد الضغط عليه (ضغط النظام السياسي). فيواجه بالانكفاء على نفسه، والامتناع عن النقاش، والانسحاب من الساحة العامة، والابتعاد عن السياسة. ينغلق المجتمع على نفسه. يتصاعد المزاج الديني. لهذا السبب ولأسباب أخرى، يضطر الى مراعاة المزاج الديني. الصيغة الدينية الراهنة تؤدي الى نوع من الرقابة الذاتية، والى أن تراقب الجماعة الأفراد، والى الاقتصار على أحكام الحلال والحرام. يعاقب المجتمع المخالفين باستبعادهم. شكل للمراقبة لا يقل هولاً وبؤساً عن رقابة وظلم النظام السياسي. يكاد المجتمع يصير صورة معكوسة عن النظام السياسي وسلطته الاستبدادية. مقاومة بانغلاق المجتمع على نفسه وتخثّر قدرته العقلية، وتراجع مساهمته في السياسة، بل الابتعاد عنها كلياً هو أكثر السبل الآمنة. على العكس، يصير إنتاج التفاهة العقلية وسيلة ناجحة لتشيح سلطة المخابرات وأجهزتها بأبصارهما عنه. الأكثر من ذلك، يصفقون للطاغية كلما ظهر. إعلان صريح للازدواجية والتخلي عن الضمير. إظهار ما لا يبطنون. الانكفاء على أنفسهم، وأحياناً الانضواء تحت راية مجموعات السلاح. ربما كانوا يريدون ذلك في الأساس. لكن تتابع الاستفزازات واستخدام سلطة العنف، بل امدادها معارضيها بالسلاح، كل ذلك يساهم في تحويل الأمر الى حرب أهلية. هذه مصدرها دائماً أنظمة الطغيان التي تحالفت، بإعلان صريح، أو من دون إعلان، وشنت ضد الناس والمجتمع ما يًسمى الثورة المضادة المدعومة دائماً بأموال النفط المستخرج محلياً أو عربيا أو إقليمياً.
الثورة المضادة تريد كعادتها أن تصف نفسها بالدين المعتدل وبالحداثة على أن يكون خصومها من أتباع الدين المتطرّف وداعش والقاعدة. إظهار النفس بمظهر حسن كي يبدو الخصوم بمظهر سيّء متطرف إرهابي تكفيري. لا تتردد الثورة المضادة عن تدمير دول بكامل مناطقها (سوريا، اليمن، ليبيا) كي تحارب ما يُسمى الإرهاب الذي ساهمت هي في إنشائه وتسليحه وتغذيته. تتفق على هذا الأمر جميع أنظمة الثورة المضادة حتى ولو ادعى كل منها الخلاف مع بقية الأطراف في الايديولوجيا وفي التحالفات الإقليمية والدولية.
كلما شعرت الثورة المضادة (الإقليمية والدولية والمحلية) بالتراجع، توسّع حرب الإبادة ضد الشعوب العربية. تقابلها هذه بالانغلاق على نفسها والعزلة والعزوف السياسي؛ وتمارس الضغوط على أحرارها ومثقفيها، وتعطي الدعم لجماعات التطرّف على أساس أن هؤلاء يجيدون وسائل المقاومة أكثر من غيرهم ضد قوى الطغيان.
تمعن الثورة المضادة في توسعة حرب الإبادة ضد شعوبها. تساعدها في ذلك القوى الاقليمية والدولية. في المقابل تسدل شعوبنا أبواب العزلة على نفسها. وتزداد جحافل الناس المقيمين، وغير المقيمين في استخدام خطاب التقية حفاظاً على السلامة. ينقطع الحوار بين الناس. يرددون ما يقوله الطاغية. يدعم المتدينون ذلك بخطاب ديني ينشد مرضاة الله، وهو في نفس الوقت خطاب يتماهى مع إرادة السلطة في طاعة الحاكم، والاستسلام له. الاستسلام لله في الدين يصير استسلاماً للطاغية في السلطة.
بزوال السياسة والنقاش الحر والتواصل بين الناس في مجتمع مفتوح. يزداد كذب الطاغية والابتعاد عن الواقع، والضغط على الجمهور كي يقبل خطابه. وتزداد المراوغة بين الناس. تغوص أقطار الأمة في الحرب الأهلية. يزداد العقل خبلاً والوعي تشتتاً. يصعب على أهل العقل والتعقّل استخدام ما لديهم وينعزلون في مجتمعهم. عملياً يفرّغ المجتمع من العقل بمقدار ما يفرغ من السياسة وبمقدار ما يبتعد عن كونه مجتمعاً مفتوحاً
تهاوت لغة الخطاب منذ عقود، أي منذ أن أخذ الإسلام السياسي في الصعود، ومنذ أن تمكن الطغاة العرب من الإمساك بتلابيب السلطة. كل ذلك لا يمنع أن يحافظ القلة من أهل الثقافة والسياسة على خطاب العقل والتعقّل والتسوية. لكن شعار إسقاط الطغاة لا بد أن يتزامن مع مناقشة أهل الدين في دينهم. لا يعقل أن يصر هؤلاء على اختصار المجتمع بين أحكام الحلال والحرام لحشر مجتمعهم وإحراجه. لا يستطيع هؤلاء مقاومة الثورة المضادة بعقل متخثّر بائس خال من الضمير الغض الممتلئ حيوية بالشكوك والأسئلة. على هؤلاء الاستمرار في النقاش وكأنهم في مجتمع مفتوح لمواجهة قوى العزلة الظلامية. لا تنجح الثورة، ولا تتقدم، ولا تدوم في تحقيق الانجازات، بعقل خاو أصابه اليباس.
أحد أسباب خيبات المثقفين هو افتقارهم الثقافي وامتناعهم عن مناقشة المتدينين في دينهم. يتطلّب الأمر جرأة القول أن الدين، بصيغته الراهنة، أصبح عبءًا على المسلمين، ولا أكثر من دجل بعض المتدينين القائلين بالتمييز بين إسلام معتدل وإسلام متطرّف. الأحرى بهم العمل على نقض الايديولوجيا السائدة وإزالتها من الوجود. هذه الصيغة الدينية التي بدأت مع النفط في الثلاثينات وتوسعت معه هي العثرة الأساسية في مواجهة أنظمة الطغيان الدينية وغير الدينية.
ينبع الاستبداد من السلطة. مهمة السلطة الاستبداد. لا تأتي الحرية إلا من تحت، من المجتمع. معركة المجتمع هي مع نفسه ومع السلطة كي لا يبقى التحرر عملية سطحية، وكي لا تبقى الحرية ملامسة الأشكال الخارجية للمجتمع فقط. على المجتمع أن يرفض أشكال التديّن الحالية. أن يرفض البنية الفكرية للعقل الإسلامي الراهن. لن يذهب الاستبداد بغير رجعة إلا إذا حصل هذا الحوار داخل النفس الإسلامية، الروح الإسلامية، والذات الإسلامية، و إذا حصل هذا الحواريجري فك الحصار النفسي الذي شيدناه حول أنفسنا. المطلوب ليس فصل الدين عن السياسة، بل فصل الدين عن المجتمع. ربما كان الدين فطرة، أو غريزة. تقضي الثورة بالصراع من هذه الفطرة أو الغريزة، مع ما يتطلبه ذلك من الآن. نحن لا ننهزم بسبب التجزئة، ولا بسبب ميزان القوى، بل بسبب أننا لا نساوي شيئاً في موازين القوى. لا يحسب لنا حساب، لا في فلسطين أو سوريا أو اليمن أو حتى ليبيا، ولا في أي مكان آخر، ما دام هناك قادة نبراسهم الإسلام السياسي. التقدم والنهوض ليسا حصيلة انتصار في احتجاج شعبي لإسقاط النظام على أهميته، ولا حصيلة معركة في حرب مع العدو. الانتصار ليس مقاومة قصيرة النفس؛ الانتصار هو عملية سياسية ثقافية، مواجهة بين أنفسنا وبين ديننا. ليس في الدين الراهن معتدلون ومتطرفون. هناك فقط مسلمون يتعاملون بخفة مع أنفسهم ومع العالم، وكان مصير هذه المجتمعات يعتمد على تصدير النفط وشراء السلاح. المصير يتقرر على منبر خطبة الجمعة وفي ضمير ووعي أصحاب هذا الدين… يتبع…