الحرية ١٧ – من يوميات الثورة اللبنانية
غادر اللبنانيون طوائفهم. لا ندري إذا كان ذلك نهائياً. نتمنى ذلك. لكن مدينة طرابلس، التي أثبتت أنها ليست قندهار كما يُراد لها، ويزيّن لصورتها، غنت لصور وجل الديب ومدن لبنانية أخرى من غير مذهب أو طائفة. جاهر اللبنانيون بكرههم واحتقارهم لقادة السياسة والطائفية، ولكل زعماء لبنان. جاهروا باتهامهم “كلن يعني كلن” بالفساد، والتفاهة، والسرقة، والنهب، والعجز المفتعل؛ اعتبروا الطبقة السياسية فاسدة عاجزة، وطالبوها برد الأموال المنهوبة، كما طالبوا بإسقاط النظام على صعوبته. سقطت المقدسات. رفض الموارنة منهم مقابلة بطريرك الموارنة. أصر الشيعة على عدم شتم حسن نصر الله، افترضوا القداسة رغم عمله بالسياسة، لكن القداسة سقطت. رفضوا التطرّق الى بري الذي يفديه بلطجية أمل “بالروح والدم”. تحرشات عديدة بالثوار، لكن دون جدوى. الثورة مستمرة. سقطت الحكومة. هذه خطوة أولى. هناك مطالب أخرى أبرزها الانتخابات النيابية المبكرة على أساس قانون غير طائفي، إضافة الى المحاسبة لرد الأموال المنهوبة، الخ…
المهم أن التواصل بين الطوائف والمناطق في لبنان غير مسبوق. لم يكن متخيلاً في السابق. كانت مفاجأة سعيدة للثوار أنفسهم. سعى أكباش الطوائف فوراً الى إيقاع الثوار في الفخ. فحاول الأكباش التفاوض. كان الرفض مبرماً ونهائياً. السلطة تحكم ويجب أن تعرف مجتمعها. السلطة تحكم ويجب أن تعرف مطالب الناس بعد أيام من القيام في الساحات والطرقات.
في اليوم ذاته، عندما استقال سعد الحريري، حاول الطائفيون من طائفة معينة ممارسة “البلطجة” على الثوار. وصار بيت زعيم الطائفة ملاذاً. واجتمع رؤوساء وزارة سابقين ثلاثة لتلاوة بيان غير مطلوب منهم. ما علاقتهم بالثورة؟ الثوار المسيحيون (الموارنة) رفضوا مقابلة البطريرك. المهم أن أكباش الطوائف حاولوا إعادة السيرة الطائفية الى الميادين. لكن الثورة استمرت. تغيير الوزارة سوف يحصل بعد استقالة سعد الحريري. الفراغ سيحدث خلال الاستشارات، وسيعود الحديث حسب القواعد الطائفية. وتكون الطبقة السياسية قد ألغت ( أو حاولت إلغاء أول منجزات الثورة: إلغاء الطائفية بطمس الجو الجميل الذي ساد المدن اللبنانية خلال الثورة). بدأت الثورة المضادة عملها قبل انتهاء الثورة.
إفشال الثورة يكون بتشكيل حكومة تحدي لجميع الأطراف، أو ما يسمى حكومة تضامن وطني. لكي تضيع المسؤولية في الحكم ويصعب محاسبة أحد من أعضاء السلطة. طبعاً، ليس في وارد الطبقة الحاكمة أن يصير الحكم برلمانياً. بمعنى أن يحكم فريق تكون له موالاة تدافع عنه، ويكون الفريق الآخر في المعارضة كي يراقب ويحاسب ويحدد المسؤوليات لمن في الحكم.
نزول البلطجية الي الشارع كان بهدف إرهاب الثوار. تقديم استقالة رئيس الوزراء لم تنفع. استقال الرجل وازداد عدد المتظاهرين في الساحات. حاول أكباش الطوائف دفن الثورة في مهدها ولم يفلحوا.
لم يدرك أكباش الطوائف، وبعض المثقفين، أن الثورة بحد ذاتها كانت تحولاً في وعي اللبنانيين، وأنها بداية تشكيل دولة وبث الثقة بالوطن. لم يدرك الأكباش أن كل لبناني من الشباب أصبح فخوراً بكونه لبنانياً، وأصبح سعيداً برفع العلم اللبناني. لم ينجح الأكباش وزعرانهم في قمع الثورة لأن الجيش وبعض القوى الأمنية فضلت الوقوف على الحياد.
بالخروج من الطائفية، خرج اللبنانيون من أنفسهم. أدركوا أن سنين القهر والإهمال التي عانوا منها كانت الطائفية الوسيلة الأساسية التي سمحت للأكباش باستخدام التفرقة بين اللبنانيين والحكم بكل ما يقتضيه الأمر من عجز ودين عام ونهب. الطبقة الحاكمة السياسية مرتبطة جميعها بأصحاب الرساميل الكبرى. ليس صدفة أن المحامين (المشرعين) غابوا عن هذا المجلس النيابي وحل مكانهم رجال المال. اللبنانيون في 16 تشرين الأول غير اللبنانيين بعد 29 تشرين الأول. حصل شيء ما في وعيهم وغيرهم. رغم استقالة الحكومة قرروا البقاء في الميادين رغم الضغط الشديد الذي تمارسه الطبقة السياسية خاصة في المناطق الشيعية المعتبرة ممسوكة سياسياً، والتي ظهرت فيها أشكال تظاهر ونقاش ووعي لم يكن أحد يعتقد بوجودها.
انكسر حاجز الخوف. ازداد الناس في الساحات بعد استقالة الحكومة. يريدون أكثر؛ بالأحرى السلطة لم تنفذ شيئاً من المطالب رغم أن الثورة محقة. لا يطالب الثوار إلا بما هو حق لهم. لا يقل أهمية عما سبق. لم يخاف اللبنانيون من أنفسهم ولا من تاريخهم القريب والبعيد. تضامنوا حين لم يكن أحد من الطبقة السياسية (ولا نحن) يتوقع ذلك. وتابعوا في الميادين في كل المناطق يوماً بعد يوم، ولم يتعبوا ولم يكن أحد يتوقّع ذلك؛ يهددون وجود الطبقة السياسية ذاتها، وهي كانت مرتاحة الى وضعها.
ما يثور اللبنانيون من أجله، وانفجروا غضباً بسبب التراكمات التي أدت الى ما أدت إليه، هو الكرامة. كرامة العيش المهدورة على أعتاب النواب والوزراء ممن يريدون وظيفة عمل أو مساعدة طبابة، أو غير ذلك. انفجروا في لحظة لم تعد الحياة تطاق وكانت ضريبة الواتساب قشة قصمت ظهر البعير. لم يدرك أكباش الطوائف وأتباعهم أن شهر العسل الذي دام ثلاثين عاماً في التعايش مع طبقات فقيرة معدمة لن يطول، ولن يصبر الناس على مآسيهم، وأن الشباب منهم خاصة يرفضون التدجين كما كان أباؤهم يقبلون. كان هؤلاء يقبلون كجزء من الحل بعد الحرب الأهلية التي انتهت عام 1990، والتي كان انتهاؤها المطلب الأول لكل اللبنانيين. حجم الحرب الأهلية لم يكن يطاق. أما حجم الحرب الأهلية المستترة التي تلت اتفاق الطائف، فلم تكن هي الأخرى مقبولة. دامت الفترة طويلاً قبل أن ينفجر اللبنانيون. لم يعودون يقبلون بمعادلة: نعطيكم الاستقرار، أعطونا كل ما في جيوبكم. فرغت الجيوب، وصارت ضريبة بسيطة على الواتساب تشعل ثورة. الغابة يولعها عود الثقاب.
لم يكن أحد يظن أن الثورة سوف تشتعل في لبنان وفي مناطق كانت كل منها محسوبة لواحد أو إثنين من الأكباش. لم يكن أحد يصدق أن اللبنانيين سيخرجون من أنفسهم وسوف يصيرون مواطنين من جديد، وأن مطالبهم ليست سوى حقوق لهم.
ليس في لبنان استبداد كالذي هو معروف ومألوف في أقطار عربية آخرى. في لبنان حرية كامنة في النفوس، مكبوتة بسبب الطائفية وزعامة أكباشها. فوجئ الأكباش؛ بل فوجئ اللبنانيون جميعاً بما هو كائن في النفوس. لكن الأكباش ما ارتضوا ذلك. سعوا عن طريق الزعران لتخريب ذلك. وكان أول ثمرات النضال سقوط الحكومة. وسيكون الإصرار على انتخابات مبكرة مؤدياً الى الثمرة الثانية. عندها يمكن الشروع بالمحاسبة ورد الأموال المنهوبة.
ما استعار اللبنانيون تجربة من أحد. خاضوا تجربتهم وفجروا المكبوت في نفوسهم. حققوا حتى الآن نجاحاً جزئياً. متابعة النضال سوف يقود الى تحقيق ما تبقى من أهداف. لا يبدو أنهم سوف يستكينوا. ولّى عهد الخضوع والإخضاع.