الفساد ٧ – الفقر وسوء توزيع الثروة
توزيع الثروة في المجتمع هو الحصيلة المؤكدة للنظام الاجتماعي السياسي. اذا كان سوء التوزيع مسألة اقتصادية فهي ناتجة عن النظام السياسي-الاجتماعي، أي ناتجة عن التراتبية السياسية الاجتماعية التي تسمح لقلة من الناس، يعدون على الأصابع، أن يمتلكوا معظم ما لدى المجتمع، تاركين معظم من في المجتمع غارقين في الفقر. ساهم اللبنانيون عبر الايديولوجيا القومية الكاذبة في ايهام أنفسهم أنهم سويسرا الشرق. وكان ذلك عبارة عن واجهة محلات براقة ومطاعم فاخرة ومحلات ثياب فاخرة لخدمة قلة من اللبنانيين بينما معظم الناس ينتظرون ماذا يقدم لهم سوق البالة. أولاً، يجدر التنويه أن الهوة أو الفجوة في الثروة والمداخيل السنوية بين اللبنانيين هي فجوة لا تحدث تلقائياً. وليست منّة من الله على البعض ولعنة على البعض الآخر. هي لعنة على الكل وحسب، وتُنْتَجْ حسب برنامج مسبق التخطيط. الفقر يتم إنتاجه بتخطيط ولا ينمو تلقائياً. لذلك يمكن إزالته ببرنامج عمل تتبعه الدول. وما يًسمى القطاع الخاص ليس حقاً مكتسباً بل هو حق مغتصب وكل ما في المجتمع حق عام على الدولة أن تتولاه وتحسن توزيعه. ما من صيغة للمشاركة بين القطاع الخاص والقطاع العام الا وكانت رخصة للقطاع الخاص ليستمر في فجوره وفي انتاج الفقر. لا ينتج القطاع الخاص إلا من الرأسمالية حين تصبح نظام المجتمع، وتحكم المجتمع وتنقض على المشاعات في الأرض وعلى كل مشترك من الأرض، التي تكون فيها الرعاية جماعية، لتجعل كل ذلك ملكية خاصة. مع التحوّل العظيم جرى تحويل البيئة الى عقارات للبيع والشراء، وجرى تحويل الانسان الى عمل يُباع ويُشترى في المعامل، وتحوّل التبادل الى مال كي يجعل من كل شيء (سواء كان بشرياً أو بيئياً أو تبادلياً) سلعة تخضع أسعارها لسوق البورصة، وتعممت هذه في كل أنحاء العالم، وأصبحت المثال الذي يُحتذى لدى الجميع كي يكسب البلد لقب الحداثة.
في البلدان حيث الدولة ذات وجود قوي وحيث السلطة ذات هيبة تمتد على شعبها، وعلى غير شعبها، في حال الاستعمار، جرى تشريع كل ذلك فصار قانونياً. في بلادنا ما زلنا دون هذه المرحلة، ولا تزال المشاعات في القرى ، وأراضي الأوقاف الدينية المسيحية-الإسلامية، وأراضي الدولة العامة والخاصة موضوع نزاع. لذلك ما زالت الرأسمالية تناضل لتحويل هذه الملكية العامة الى خاصة يملكها أفراد. وما زالت المحاكم تحكم لصالح الأقوياء. وعلينا أن نعرف من هم هؤلاء الأقوياء؟ هم قادة مجتمعاتهم الطائفية (أكباشها). يعملون في السياسة، يعاونهم ويبرر لهم رجال الدين. وكل ذلك لقاء مادي. في بيع الأطفال وبيع الأعضاء من مستشفيات مدنية ودينية، يحتاج هؤلاء الى دعم أكباش الطوائف كي لا يُطبّق عليهم القانون وكثيرا ما ينجحون. ينجحون إعلاميا عبر طغيان الطابع الخيري على الاجتماعي. ويتم تبييض صفحتهم بعد إثارة الفضيحة (أو الفضائح ومرور الزمن عليها).
التعددية الدينية والمذهبية هي تعددية طائفية-سياسية. الطائفة ترتكز على الدين أو المذهب لكن كل عملها أو نشاطها سياسي لحماية أتباعها. استخدم تعبير الباتريمونالية لوصف هذه التبعية لكنها لا تنفصل عن الطائفية. الفقير لا يُوظّف إلا “بواسطة”، أي دعم من كبش الطائفة، وحينما يوظّف يحتاج بفعل التركيبة الاجتماعية-السياسية الى أن يسرق المال العام. وتُسوّى أمور الذين يسرقون. هو خط أحمر يحميه أكباش الطوائف. إذا لم يفعل ذلك وحافظ على ما يمليه ضميره وتصرّف بأخلاق وطبّق القانون، تحل عليه النقمة. فإما أن يُفرد إفراد البعيرالمعبد أو يصير منهم، ويلتحق بقطعان الطوائف وراء الأكباش.
الملكية الخاصة هي في الأساس ملكية عامة سيطرت عليها المصالح الخاصة، فصارت قطاعاً خاصاً، وسّع أعماله في التجارة والمصارف والسمسرة، وصار قطاعاً يُعتد به. صار مفخرة المجتمع لأنه فعّال، بعكس القطاع العام المهزوم، فيصرخ أرباب القطاع الخاص مطالبين بالخصخصة، ومعنى ذلك إكمال استيلاؤهم على القطاع العام. يريدون كل شيء لأنفسهم؛ وهم قلة في المجتمع. بضعة مئات من العائلات التي تبنت الدم الأزرق وصارت تعتبر أن ما لديها هو حقها زوراً أو تدليساً. هو حق مستمد من كونها طبقة أعلى وأشرف (بمعنى النبالة لا الأخلاق). قلة الأخلاق عندهم لا حدود لها. طمعهم لا حدود له. جشعهم مغلّف بغشاء من الايديولوجيا الذي تبرره الايديولوجيا الليبرالية، بما في ذلك المؤسسات الدينية. لا يفوتنا هنا التنويه بأن المؤسسات الدينية هي من أكبر المتاجرين بالمال والملكية العامة. ولا يخفي ذلك أنهم يحيطون أنفسهم بهالة من القداسة التي ليست أكثر من طلاء كاذب. يحميهم أكباش الطوائف وهم يشاركونهم ويباركون لهم، ويقدمون لهم التبريكات من الله، استمدوها بطرق ملتوية. عملية نصب واحتيال تشارك فيها الطبقات العليا فكأنها عصابة مافيا. المافيا ليست ميزة ايطاليّة. الاسم ايطالي، لكن الفعل، أي فعل المافيات، يتم في جميع البلاد، بما في ذلك بلادنا. هي بالفعل تجارة بالبشر. تبدأ بإزالة الفلاحين من أرضهم وإلحاقهم بالمدن للعمل في الأعمال الخسيسة. الذين منهم يعملون في الأعمال المتفرقة والمعامل لا يُترك لهم من نتاج قوة عملهم إلا النزر اليسير الذي بالكاد يكفي لسد رمق التناسل. على الطبقات الدنيا أن تستمر بالتوالد (والفقر) وإلا انقطع مورد الطبقات العليا من السلعة البشرية، وأصيبت الأعمال بالركود، بسبب نقص العاملين. لذلك وجب أن يُحاط هؤلاء بجيش من العاطلين عن العمل الوافدين أو غير الوافدين من الريف. هؤلاء ينتظرون فرصة العمل أي طرد أحد العاملين ليحل مكانه عاطلون عن العمل بأجر أدنى.
إنتاج الفساد في المجتمع ثم إنتاج الاستهلاك المفرط لدى الطبقات الدنيا يجعلان هؤلاء الفقراء يرزحون تحت الديْن. في الديْن يلتقون مع الدين. هنا يلتقي الدين مع الديْن. الدين يبرر للديْن ويجعله ابتلاء من الله. فكأن قدرة الله اللامتناهية لا تكفي لتقديم البحبوحة لهؤلاء الفقراء. بذلك يجعل رجال الدين ومن ورائهم رجال الثروة الكبرى الله في خدمة الأغنياء لا الفقراء. يعتبر الأغنياء أن الله قد أكرمهم بالثروة، وهم لا يجيبون كيف أن الله الذي من الأساس عادل ويمتاز باللطف لم يمن على الفقراء بمثل ما يمن على الأغنياء. أم أن الفجوة في المداخيل السنوية والثروات المتراكمة من إرداة الله؟ معاذ الله.
الطائفية في لبنان نمط إنتاج ثقافي يتطابق مع نمط الإنتاج الاجتماعي. استمرارها في لبنان هو دليل آخر على استمرار النظام الرأسمالي بأبهى حالاته نظام رأسمالي مزيّن بما يكفي من الايديولوجيا الاجتماعية المباركة دينياً. ليست الطائفية في لبنان نمواً تلقائياً بل هي نظام اجتماعي يُكرّس لا للدفاع عن الأديان والمذاهب، ولا لتأمين حصصها (حقوقها) بل للدفاع عن ملكية وثروات الطبقات العليا، وإرساء البركة الدينية عليها. وما الدفاع عن الطائفية إلا الدفاع عن الطبقات الرأسمالية ذاتها. ترتفع طائفة وتتراجع أخرى لا بازدياد ارتباطها بالمذاهب التي انبثقت عنها بل بارتباطها بالمصالح الرأسمالية العليا. التنوّع الطائفي في لبنان ليس مصدر غنى ثقافي، كما يتغنى البعض، بل هي رسم لملامح المجتمع كي يتناسب مع رأسمالية حديثة في ملامحها، متخلفة في واقعها الاجتماعي.
الطوائف تشكيلات اجتماعية رأسمالية في واقعها لا تمثّل ما هو تراثي أو طبيعي أو تلقائي. هي تشكيلات اجتماعية لإنتاج أكبر كميات من الفقر والمهانة واستبعاد الناس عن المواطنية. تتآكل الدولة تحت وطأة الطائفية، وبالطبع تحت وطأة الطبقة الرأسمالية العليا التي تشغّل الطوائف وتمعن في استغلالها. استغلال تضفي عليه القداسة ليحوز البركة الإلهية عبر الطوائف ومذاهبها.
نقرأ الكثير عن كتابات علماء الاجتماع والاقتصاد الذين يريدون، ربما عن حسن نية، والأرجح بسوء نية، معالجة الفقر ولا نقرأ كثير من المقالات عن معالجة الغنى والتعاطي مع الثروات الهائلة. النظام السياسي-الاجتماعي يقول أنصاره أنهم مهتمون بمسألة الفقر لكنهم يمتنعون عن المس بمسألة الغنى والثروات. ليسوا على استعداد للمس بمسألة الغنى وما يتفرّع عنها. ليسوا على استعداد للإقرار أن أموال الأغنياء هي مصادرات لما أنتجه الفقراء في مؤسساتهم الاقتصادية. الفقر مصدر الغنى. والثروة مصدرها ما هو حق للفقراء.
إنتاج الفقر يتم أيضاً في المؤسسات الصناعية والزراعية والخدماتية والمصرفية الحديثة. كلنا، أو بعضنا، يعرف استغلال هؤلاء الذين يعملون في هذه المؤسسات. وكلنا يعرف الهجومات المتتالية على معاشات التقاعد، وهي حق للعاملين الذين قاربوا سن التقاعد. هي ايداعات اقتطعت من رواتبهم من أجل شيخوختهم. جرى التفصيل في هذه الأمور في أماكن أخرى. التقارير كثيرة حول هذا الموضوع. بعضها ذو قيمة كبرى.
ثورة 17 تشرين الأول كانت من أجل الكرامة، ضد الفقر، ضد الهجرة/الطرد من البلاد. استرداد الناس لكرامتهم، يعني تحررهم من هذا النظام الذي يجعلهم أتباعاً، ويجعلهم فقراء، ويجعلهم مساهمين في سوق الفساد الملموس على كل الأصعدة. كرامة الانسان تداس تحت أقدام الفقر. الحركة مطلبية. فليكن. لكن الحركة أيضاً تنشد الكرامة بالخروج من الفقر وانسداد أفق العمل والاضطرار الى الهجرة/الطرد.
هي ثورة الكرامة بحق. لا يستردها إلا من هو أهل لها. الفقراء أهل لها لأنهم ناضلوا من أجلها. ناضلوا ضد الأغنياء. ناضلوا ضد القوى الأجنبية التي تؤيد هؤلاء الأغنياء. الكل يعرف أن للأغنياء ارتباطات بالخارج، بالرأسمال العالمي.
انفجار 17 تشرين الأوّل سوف يتبعه انفجارات أخرى. الفقراء سوف يستمرون، وان تقطعت أوقات الزلازل، في النضال من أجل حقوقهم.