لبنان بعد الثورة، سلطة إنتاج الأزمات
ثورة 17 تشرين الأول لم تنجح في إسقاط النظام (سوى مناورة سعد الحريري الذي استقال هو وحكومته). عاد النظام علينا بحكومة سموها غير سياسية، اختصاصيين، تقنيين، حياديين. فكان ذلك كذبة كبرى. هي حكومة موظفين. الذين ألفوها لم يقرأوا التاريخ، لا القديم منه ولا الحديث. ربما لم يسمعوا عن الثورة. لا يعرفون شيئاً عن أسباب الثورة ومؤدياتها. واضح أنهم لا يدركون عبء المرحلة.
إذا كانت حكومة اختصاصيين، فهولاء الوزراء نكرات في اختصاصهم. وإذا كانت حكومة مستقلين فإن سمك شفاتيرهم يدل على حجم اللبيط الذي يتلقونه كي يفهمون التعليمات.
جاءت أحزاب السلطة بحكومة موظفين أو مستشارين. ربما كانوا يفهمون عن عروض الأزياء أكثر مما يفهمونه عن عمل الدولة. لا يحترمون قراراتهم. فهم على استعداد لتغييرها بعد إقرارها، وفي اليوم التالي بإيماء رأس من ديك الشلعة، ولا تظنن أن الديك عضو في الحكومة أو رئيسها. فهذا مشغول بتمشيط شعره. بل هو خارج الحكومة يوجه إليه الأمر من الخارج بعد أن يستشير أحزاب السلطة وهم بالدرجة الأولى حزب الله ثم حركة أمل ثم التيار الوطني الحر.
تتصرف أحزاب السلطة وكأن شيئاً لم يكن. هم لم يفهموا الثورة. في الحقيقة لا يفهمون شعبهم. بعضهم، أو أحدهم يضع القيود على قواعده كي تبقى كما كانت قبل الثورة.
لم تدرك أحزاب السلطة أن الأرض تحت أرجلها تزلزلت، وبات قسم كبير من المحازبين والأتباع يرفضون أحزابهم، أو في طريقهم الى الرفض. الأسئلة في داخل الأحزاب من الحزبيين كثيرة. يعرف المحازبون والأتباع، ومعظمهم من الفقراء، أن القيادات مهما كانت قدسيتها سابقاً، ومهما كان الاستعلاء الأخلاقي لديها سابقاً، هذه القيادات دوائر مغلقة يهمها قواعد لا كبشر لديهم مشاعر وحاجات وأهمها الأكل والمحروقات والصحة، يل يهمها القواعد كأرقام. يخافون تنفيذ مبدأ الانتخابات المبكرة سواء على المستوى النيابي أو الرئاسي لأنهم يعرفون النتائج سلفاً. القانون الانتخابي الأخير كان الأسوا من نوعه، بل كان بدعة بهلوانية سمجة. الذي أو الذين صاغوها لديهم قلة من الأخلاق وكثرة من التلاعب. أرادوا قانوناً معقداً كي يصعب الفهم على المواطن حتى ولو كان يحمل دكتوراه في الرياضيات أو الفيزياء أو الفلسفة. التعمية هي الوسيلة الأساسية لدى النظام من أجل التضليل. وقد نجحوا في ذلك.
استعراض الانتخابات النيابية التي أجريت منذ بداية التسعينات يدل على أن التغيير قد حصل، لكن بالاتجاه الأسوأ، وتنصيب الأزلام، حتى ولو كانوا على قدر كبير من الغباء وانخفاض الIQ. أتانا أكباش الطوائف بهؤلاء النواب كي يضمنوا ولاءهم، وكي ينفذوا أوامرهم كالمأجورين. التغيير حصل لكن باتجاه الأسوأ.
أما مجلس الوزراء الجديد فقد جاء به الهبل لا لإدارة الأزمة بل لإدارة أكثر من الهبل في حقل يموج بأكباش الطوائف الذين تضاهي مخالبهم أسنان قروش البحر. جميعهم (الوزراء) يتلقون التعليمات من خارج الوزارة، من أكباش الطوائف. حتى الذي منهم كنا نعرفه ونعلّق عليه أمالا كبيرة، أو فلنقل متواضعة، خيب الآمال بالكامل.
جابهت الحكومة صندوق النقد الدولي، وبعد مشادات عنيفة، جاءت بشركات استشارية اعتقدت أنها تجيد الطرح والجمع، وربما الضرب والقسمة، لتوحيد الأرقام أو الموازنة، فإذا الأرقام متضاربة وبعيدة عن بعضها البعض. الحكومة لم تأخذ وقتها لتقوم بفرضها المنزلي وتدرس ملفها علماً أنها تعرف أنها ستقابل هيئات دولية تعرف عن مالية لبنان أكثر مما يعرفها اللبنانيون. خبراء لبنان يتلاعبون بالأرقام لإخفاء شيء ما لمصلحة قادة ما، ويحجمون عن قول الحقيقة. بعضهم بقي لديهم قسط من النزاهة فاستقالوا. أليس عيباً أو فضيحة أن يواجه الوفد اللبناني، وفد الصندوق الدولي، أو أي جهة أخرى وهو لا يعرف، أو يدعي أنه لا يعرف ما لديه. أم أن الغنج ضرب برؤوسهم ظناً منهم أن “لبنان الرسالة” يجوز له ما لا يجوز لغيره. انتهوا كالأولاد الصغار في صف يطلب استاذه من التلامذة القيام بفروضهم قبل المجيء الى الصف.
بعد الثورة الإيرانية في عام 1979، قامت مظاهرات تنادي “لا شرقية ولا غربية”، وبعد اشتداد الحرب في سوريا رفعت احدى حكومات لبنان شعار النأي بالنفس. لا ندري لماذا تصر الطبقة السياسية على الاعتماد على الخارج، من هذه الجهة أو تلك.
في لبنان كل قطاع اقتصادي أزمة، والأزمات في كل مكان وتشمل كل الناس ما عدا القلة التي تقل عن 1% من الناس، والتي تملك من المال ما يمنحها حرية التصرّف. هؤلاء يرون الظروف مناسبة لشراء أملاك الناس بأسعار رخيصة مناسبة، وشراء أملاك الدولة والأملاك العامة بشروط مناسبة لهم، وشراء البلد بعد السيطرة عليه. ليست المواجهة بين فريق السلطة والفريق الآخر: المواجهة الفعلية بين كل هؤلاء وكل الناس.
الجوع ضرب اللبنانيين. ليس فقط أن أجورهم لم تعد تكفي لشراء الحاجيات الأساسية، بل الطبقة الرفيعة تمنع عنهم المواد الأساسية والمحروقات كي يصابوا باليأس ويبيعون ما تبقى لهم من ممتلكات. يبيعها أصحابها مقابل لقمة العيش. دخل لبنان في مرحلة المجاعة. تعريف البروليتاريا هو الطبقة التي لا يملك أفرادها أدوات الإنتاج ويعملون بأجر يومي أو غير يومي عند أرباب العمل. جميع اللبنانيين ينحدر مستواهم المعيشي بهذا الاتجاه. لكن أرباب المال هرّبوا أموالهم والمتاجر والمصارف التي يملكونها في لبنان فارغة. لا تحتاج لأجراء ولا الى زبائن. كأن جميع من بيدهم الأمر قد تواطؤوا على اللبنانيين وعلى إفقارهم وعلى إنتاج أزمة في كل قطاع لزرع الإحباط والقنوط لدى الجميع حتى يبيعون ما عندهم بأسعار بخسة.
المتواطئون هم السلطة ومعارضوها. لم يعد بوسع اللبنانيين الاعتقاد إلا أن الصراع على السلطة بين موالاة ومعارضة هو نوع من المسرحية الى لا تكلف اللاعبين أو الممثلين شيئاً، بل تكلّف جماع الشعب اللبناني ودولتهم ما تبقى من ملكيات.
الانتحارات التي تحدث بسبب الفقر، ومحاولات الاغتيال التي تصيب الناشطين، كل ذلك دليل على أن الطبقة الحاكمة ان لم تفهم أو تكترث لثورة 17 تشرين الأول، هي على الأقل تحاول الاستفادة من نتائجها. هي تحاصر اللبنانيين بالكورونا والدولار لتجويعهم كي يتخلوا عما تبقى لهم فيبيعوا ما يملكون ويتحولون الى بوليتاريا أو يهبطون الى ما دون خط الفقر، كي يليق بهم تعبير البوليتاريا الرثة.
تقوم الطبقة الحاكمة التي هي شيء انقسم شقتين بمناورات عدة لتوهم الجمهور اللبناني بانها تفعل شيئاً لإدارة الأزمة، لكنها في كل ما تقوم به هو أن تنتج أزمة في كل قطاع. تنتقل من قطاع لآخر لإنتاج أزمة فيه. لا حلول لشيء. مهمة هذه السلطة هي إنتاج الأزمات الخانقة. وكأن جميع أطرافها متفقون على ذلك. في أوقات الأزمات يلجأ الرأسمال الكبير الى التراكم البدائي أو ما يسميه الاقتصاديون الذين منحوا القدرة على التمييز نزع الملكية، بسلخها عن أصحابها لإفقارهم. ومن يسقط الى مستوى الفقر المدقع التي تعني الحاجة الى لقمة العيش، سيعتمد على جمعيات الاحسان التي تحضّر وجبات الطعام للجائعين. نعم دخل اللبنانيون مرحلة المجاعة، أو هم يسيرون باتجاهها، وأرباب المال الكبار يمولون الإحسان أو بعضه لتسهيل المهمة، مهمة تشليح اللبنانيين أرزاقهم والتعويض عنها بالإحسان عن طريق تقديم صناديق إغاثة أو وجبات غذاء. أما الثياب فإن سوق المستوردات ستنضب وسيضطر الجمهور الى الاكتفاء بارتياد أسواق الثياب العتيقة المستوردة للبيع بأسعار بخسة.
من أجل كل ذلك اختفى “الدولار من الأسواق” ليقبع في حسابات خارجية، أو ليكتنز في البيوت ليكون جاهزا للمبادلة بأرزاق الناس وممتلكاتهم. جزء كبير من الأموال المكتنزة بالعملة الصعبة، بالدولار أو اليورو أو غيرهما، جاهز ليس فقط لسد حاجات أصحابه بل لشراء ممتلكات الناس. يأتي دور أملاك الدولة وبقية الأملاك العامة بعدها.
قلة من الناس، من الطبقة الوسطى أو الأدنى، هم سوف يصمدون. سيتم نزع ملكياتهم بأساليب شرعية قانونية. أما الذي سينتج عنها فهو تغيير التركيبة الاجتماعية اللبنانية: قلة من أرباب المال الغزير، أقل من 1% من السكان، وبقية الناس جمهور من الفقراء الذين لا يملكون شيئاً. الطبقة العليا لا تأبه لانقسامات السلطة. جميع أطرافها ينتجون أزمات لصالحها. جوهر الأزمات تشليح الممتلكات التي يبيعها أصحابها في سبيل لقمة العيش. النظام يسمح بذلك قانونياً. وقد حدث ذلك في التاريخ عدة مرات. انتقلت “الوجاهة” في المجلس النيابي وخارجه الى طبقة جديدة من “أغنياء الحرب”، وهؤلاء جاهزون كي يتملكوا بسلخ ملكيات الضعفاء وإنتاج ثروات جديدة. مهمة الأزمات، وهي أكثر من أن تحصى، دفع الطبقة الوسطى وما دونها الى تحت وبزوغ فجر طبقة جديدة من أصحاب الثروات، الى جانب الطبقة الموجودة أو المنخرطة في عدادها. مهمة الحكومة إنتاج الأزمات وترك “اللعبة” تأخذ مداها.
مهمة السلطة وأحزابها، والمعارضة أيضاً، إنتاج الفقراء: تحويل الشعب اللبناني الى فقراء لا يملكون شيئاً ولا يجدون عملاً، فتكون النتيجة إما الفقر أو الهجرة. لكن من يجرؤ على السفر في زمن الكورونا. وكأن الكورونا وإجراءاتها جاءت مناسبة للطبقة العليا. طبقة أرباب المال. هؤلاء لا يريدون الثورة، ولا يعترفون بنتائجها. يتصرفون وكأنها لم تكن. اعتبروها أزمة مالية، فإذا هي أزمة قاتلة في كل قطاع. يزدهرون بكثرة الأزمات. هي الوسيلة التي يرونها مناسبة كي ينفذوا برنامجهم بالاستيلاء على أملاك الناس وبأسعار مناسبة. تنتج السلطة بأحزابها الأزمات كي تتركز الملكية، ملكية الأرض والعقارات والمؤسسات التجارية، بين أيديها. يرون ان الفقر والإفقار يجعلان الناس أدوات طيعة في أيديهم، فتؤدي الثورة الى عكس ما أراد أصحابها.