ماذا لو ….. سألنا رفيق الحريري
عندما يسأل أحدهم: ماذا لو كان الحريري حياً، بعد انفجار 4 أب، ماذا كان يفعل؟ السؤال بحد ذاته يعبر عن فكرة مستحيلة. والظروف التاريخية اختلفت. في الأصل لو كان حياً، كان رأيه الفعل والإنجاز. ولم يكن هؤلاء يستحقون أن يكونوا في السلطة. فهم لا يفعلون شيئاً. لا نسمع إلا عن لجان دراسات وتحقيقات ولا نرى فعلاً وعملاً. نسمع جعجعة ولا نرى طحناً.
لكن من حق المراقب أن يلاحظ، وأن يعلق، وأن يسأل، وأن يُسأل. من حقه هو وغيره أن يستفيد من تجربته، ومن واجب أهل السلطة، بل كل الأجيال الجديدة أن تستفيد من خبرة المسنين، أهل التجربة. ولا تتركهم للكورونا وحدها.
لنفترض أن أحداً سأل، فماذا يكون الجواب؟ صاحب الجواب ذو خجل طبيعي وتواضع يمنعانه من الجواب. لكن اعتداده بنفسه يناديه من الداخل ويقول أجب. أمانة لصاحبك الذي في السماء. قل لهم: أهون ما في الشغل هو الشغل. ما ليس بشغل هو الصعب. يتلهون بما ليس شغلاً. ولذلك “يتفركشون فيما بين أرجلهم”. قل لهم: معنويات الناس هي الأهم. أنهم بحاجة الى من يبعث الأمل في نفوس الناس. ما زالوا يتناقشون في جنس الملائكة. أهمية القيادة أن تعتمد العزم. وأن يفيض منها ذلك على الناس. أراوحهم ممعوسة. وهم، أي الطبقة السياسية، بحاجة أن يغيروا ما بأنفسهم. دافعهم الوحيد هو الحقد على من دُفن. حتى الولد لا يذكر انجازات أبيه. يتحدث عن المحكمة الدولية فقط. لا يعرف تجربة أبيه.
قل لهم: تستطيعون جعل الأمر استفادة من ثورة 17 تشرين، لكن خوفهم من المجهول الذي أرسله الى السماء يجعلهم يخافون الإقدام. قل لهم أن لا ينكروا التاريخ الحديث والقديم، وأن وعي الناس أرقى مما يظنون، وأن الخراب والنهب هم سببه. على الأقل يتسترون على الأسباب الحقيقة. قل لهم ليس هناك حريرية سياسية. هناك وطن استدعى خرابه باجتياح افتعله العدو الاسرائيلي ردة فعل وعمل يستجيبان لحاجات الوطن وبناء الدولة. الدولة اياها التي أنكرتموها على مدى عقد ونصف بثلاثية “الشعب والجيش والمقاومة”، أنتم بجميع أطيافكم ال14 و8 أذارية.
قل لهم: حولتم الأمر من دولة تتسوّل الى مجتمع وأفراد يتسولون. فقد اللبنانيون كبرياءهم. صادرتم أموالهم، أي ودائعهم، خاصة للطبقة الوسطى والأدنى. معنى ذلك أنكم قيدتم اللبنانيين. سجنتوهم في زنزانات الإحباط واليأس. أتركوهم يعملون على سجيتهم. الأموات لا يُستردوا. المصابون الجرحى يمكن مداواتهم. الأبنية والبنى التحتية يمكن اعمارها. الاعمار في كل آن، في الماضي كما الآن، في لبنان كما في غيره يعتمد بالدرجة الأولى على جهود الناس. وكل المساعدات مهما كثرت أو قلّت تكون مساعدات تكميلية للجهود المحلية. الناس مبدعون إذا تركت لهم حريتهم. وضعتم أيديهم في السلاسل وتريدون منهم العجائب. كيف يبني وكيف ينتج من هو في القيد؟ قيد الإحباط واليأس. كل نشرة اخبارية هي بمثابة ورقة نعوة.
دعوا الناس لمبادراتهم. أطّروهم في أطر تنسيقية. ليكن للتنسيق مركز، وللمركز خطة، وللخطة توزيع مهام. والمهام تنفذ تلقائياً متى زالت القيود. ليس بالأمر يحيا الانسان. لا الأمر ولا المأمور.
إزالة الركام، مسح الأضرار، تجهيز خرائط لما يراد أو يجب إعادة بناءه، ثم البناء والتجهيز. كل تلك الأمور سهلة. شرطها التنسيق الجدي. التنسيق شرطه أن يكون مركزياً؛ المركزية الصحيحة هي حيث تترك المبادرة للناس، وحيث الإطار هو الدولة.
الاعمار ليس مسألة تقنية وحسب. هو مسألة سياسية بالدرجة الأولى. هو روحية العمل والسعي والإقدام فوق كل اعتبار. هو الشجاعة فوق الاستسلام. الشجاعة هي إقدام مبادراتهم، أخذها بالاعتبار. احترام عواطفهم. الانسجام مع حاجاتهم. الجبانة هي الخوف. من الناس. الذين يخافون من ثورة 17 تشرين الأوّل 2019 لا يستطيعون النهوض بعد كارثة 4 آب. لذلك تركوا الأمر وكأن “كل من حارتوا إلو”، في وقت نحن أكثر ما نحتاج فيه للدولة والتنسيق بين المجتمع. تنسيق المجتمع بين مختلف أطرافه. يتركون الاعمار ليحدث كيفما اتفق. جمعيات ومؤسسات، كل يغني على ليلاه. والدولة لا شغل لزعمائها إلا استقبال الوفود وطائرات المساعدات على المطار. عجز كامل عن تشكيل إطار مؤسساتي لكل ذلك. ربما لا يريدون ذلك. يخشون أن يكون المجتمع ضد أحد أو مع أحد. يخشون المجتمع وغضبه. يخشون الفعل والإنجاز. يخشون الفعل لأن كل ما فعلوه في السابق كان جملة أخطاء. ويخشون الإنجاز لأنهم لا يفعلون. لا يجرأون على الفعل. من لا يفعل لا ينجز.
قل لهم: عليكم أن تنسوا أحقادهم. الدولة لا تدار بالأحقاد. السياسة فن التسويات وليس الأحقاد. التسويات، تراكم التسويات، هو بناء الدولة والوطن. الأحقاد هي خراب الدولة والوطن والمجتمع.
قل لهم: المجتمع يستحق الثقة بدولة أو بدون دولة، بحياد أو دون حياد. لكن الاعمار لا يكون إلا بالعمل. والدولة لا تكون إلا بالإنجاز. الطغاة يخافون الناس. لا يثقون بهم. لا يتركونهم يبادرون. لا تقلدوا الطغاة. لا تدعمونهم. الديمقراطية تكون بالناس ومن أجل الناس. لا معنى للديمقراطية دون السياسة. الطغاة يلغون السياسة. يريدون الناس أُجراء عندهم. وإذا كان لهم رأي، للناس رأي، فهم يصنفونهم ضدهم. ألا يقولون : إما معنا أو ضدنا، والحياد ممنوع. يخافون ممن يخالفهم الرأي. ينبذون الاختلاف. الرسول لم يفعل ذلك. كان يشاور، ويعمل بالمشورة إذا راها مفيدة، حتى ولو أتت ضد رأيه. اسمعوا هتافات 17 تشرين الأول. اسمعوا أنين الموجوعين في 4 آب. ليس بالآذان الصماء وعمى البصيرة تكون السياسة أو تبنى الدول. لديكم دولة لا تدمروها. شاركوا الناس في تطويرها لتتماشى مع آمالهم وطموحاتهم.
قل لهم: الوحدة الوطنية لا تكون بحكومة وحدة وطنية. لا ضير في المعارضة والموالاة. الوحدة الوطنية تكون بلم شمل المجتمع. ما فائدة حكومة وحدة وطنية إذا كانت الطائفية تنخر في المجتمع؟ وهي تستعر يوما بعد يوم. عناد السلطة وعدم سماع الرأي الآخر، والآراء الأخرى، يشلّع المجتمع. الخوف على الدولة من أهل السلطة. الدولة إطار للمجتمع. السلطة حكم وتحكّم. الحكم الذي لا يأخذ المجتمع بالاعتبار يكون خطراً عليه.
قل لهم: الدولة لا شرط عليها. السلطة شرطها القانون والدستور. لا يكتفون بوضع شروط على الدولة، بل يفعلون كل ما بوسعهم لإلغائها والاحتفاظ بالسلطة. السلطة لا تدوم دون الدولة، دون المجتمع. المجتمع هو الدولة.
قل لهم: التعددية في المجتمع أمر طبيعي. التعددية في هوية كل فرد أمر طبيعي. إلغاء التعددية بالقسر والإكراه، وتغليب الرأي الواحد، يلغي الحرية والتعددية. التحرر بالمقاومة يلغي الاحتلال. يستكمل التحرر بالحرية. الحرية فردية. هي ما ينبع من الضمير. تحكّم التحرر بالحرية نوع من الاستبداد. الاستبداد مصيبة كبرى؛ وبال على هذه الأمة. وهناك فرق بين أن نهادن الاستبداد وأن نخضع له أو نعمل من أجله.
قل لهم: “الثلم الأعوج من الثور الكبير”. ملاحقة موظفين ضرورية لكن الأجدى هو ملاحقة وزراء ونواب ومن هم أعلى. على الأقل، يجب أن يخضعوا للتحقيق ويكونوا تحت المراقبة. ما يحدث في وزارة ما يجب أن يكون الأعلى رتبة هو المسؤول عما يفعله الأدنى منه. ما حصل في 4 آب لم يترك حصانة لأحد، من أعلى الهرم الى أدناه.
قل لهم مرة أخرى: السياسة لا تكون بالأحقاد. الحاقد لا يكون قائداً. هم بحاجة للسعي لاجتلاب خصومهم الى صفوفهم. من معك معك، عليك أن تجذب أخصامك لجانبك. أتركه معارضاً وحاوره وشاوره. على من يعيشون في إطار الدولة أن يعيشوا سوية. الشروخ عميقة في مجتمعنا. الحوار ضروري. ليس من وراء المتاريس الطائفية. لنعترف بقدرنا وهو أن نعيش سوية ضمن الحدود المرسومة لنا. الدولة كيان مصطنع، يصير تاريخيا (طبيعيا) بمرور الزمن. مئة عام كافية. فعل الاستعمار كل ما يستحق اللوم. ما فعلناه لا يستحق الثناء. آثار 4 آب كريهة وخطيرة تستحق الاستعجال. عليهم نبذ من يجادلون في جنس الملائكة ومن بتنافسون على المناصب.
قل لهم: تواضعوا. ليكن التواضع أمام الصغار. وليكن الكِبر أمام الكبار. عكس ذلك انتهازية. الانتهازية غير مجدية إلا للكسب الفردي على حساب المجتمع. التسوية السياسية تكون بين أكفاء. لا تستعملوا التسوية لإخضاع الآخرين. يكون في الأمر خدعة. إنما الحرب خدعة، وهذه ليست حرباً، بل مجال للتعاون والسياسة. في السياسة الصراحة والشفافية هما الأساس.
في النهاية، كونوا أوفياء لشعبكم. مجتمعكم هو كل لبنان لا منطقة ما. أو طائفة ما. الحوادث الأمنية احتيال على الناس. حرف أبصارهم عن المشاكل الحقيقية. لا يفيدكم ذلك. لا تحشروا جماعة أو طائفة في الزاوية. إذا حدث وقاطعوكم يسقط نظامكم. لا أحد يريد ذلك. السياسة بالتراكم. تراكم التسويات. ضعوا الجميع موضع العمل، ولا يكون دأبكم التمريك على الآخرين. الأزمة وجودية، تتطلّب جهوداً جبارة، أولها التعاون والتكاتف والاختلاف. ليكن الاختلاف طريق الحوار والوحدة. الاختلاف ضروري لكل إنجاز. إهمال الاختلاف، الاستخفاف بالآخرين، هو الكارثة. أنتم في قعر الكارثة. إفهموا ذلك.
سألتني وأجبتك. لن يطول الجواب كي لا يكون وعظا أشبه بعظات رجال الدين. اجعلوا من أنفسكم رجال فعل لا رجال وعظ. كونوا رجالاً. ما يحدث عندكم بالسياسة هو أشبه بلعب أولاد صغار مع الاحترام لهؤلاء. يحق للصغار أن يلعبوا. لا يليق بالرجال إلا الجدية في العمل، ولا يليق بالعمل إلا الإنجاز. اقتنعوا أنكم في وطن وفي دولة، وأن ما يستحق العناء هو تقويم الدولة وبناء الوطن من جديد.
ملاحظة: هذا حوار افتراضي مع رفيق الحريري. هو في السماء. هو كان رجل الدولة الأول في عهده. لربما نستفيد من تجربته وحكمته اللتين لا يتمتّع بهما الآخرون. كان فرصة للبنان. فليكن إرثه فرصة ليستفيد منها العاملون في الحقل العام. الخصوم، والأتباع، البعيدون، والأبناء.