تحولات الهوية في لبنان – لا نحو قومية لبنانية ولا قومية عربية بل للدولة
التحول في الهوية السياسية اللبنانية لم يبدأ مع ثورة 17 تشرين الأول ومع انفجار بيروت في 4 آب، لكنه تأكد بهما وصار بهما نهائياً. هو تحوّل من شرذمة هويات قومية ودينية واثنية الى هوية واحدة لبنانية لها الأولوية عند كل اللبنانيين؛ أو معظمهم على الأقل.
في كل مجتمع تتعدد الهويات الإثنية والدينية والطائفية والقومية. والأهم أن في كل فرد تتعدد الهويات. صارت الهوية اللبنانية هي الأولوية الأولى الآن. هو تطوّر فجاءي (mutatiuon) أو تطوّر تدريجي لكنه حصل بسرعة غير متوقعة. من قبل كانت الهوية العربية تعني الوحدة القومية العربية، وتعني بحصولها الحاق لبنان ذي الأقليات المتنوعة ببلد عربي ذي أكثرية غالبة من دين أو مذهب واحد. وكانت الهوية اللبنانية تعني القومية اللبنانية على أساس أن لبنان أمة متكاملة وعليه أن يكون مختلفاً عن البلدان العربية المجاورة. عند الجهتين كان مفهوم الأمة يعلو على مفهوم الدولة، بالأحرى كان مفهوم الدولة غائباً.
التطوّر الذي حصل هو الحضور بشدة لمفهوم أو مبدأ الدولة في وعي اللبنانيين. صار مفهوم الأمة، سواء كانت عربية أو لبنانية، ثانوياً بالنسبة لمفهوم الدولة. صار الوعي بالدولة أعمق. انغرز في وعي اللبنانيين. دولتهم كما هي، بحدودها التي رسمت في عام 1920، صارت هي المجال السياسي المعترف به في هذا الوعي. صحيح أن هذا الكيان حدده الاستعمار، لكن صار محدداً في وعي اللبنانيين وهويتهم. تملّك الوعي اللبناني هوية لبنان واللبنانيين. صار الأمر وكأنهم هم صنعوا لبنان بحدوده الجغرافية. المنشأ صار ملكهم ولم يعد ملك الاستعمار.
لم يعد لبنان بكيانه الحالي ضرورة براغماتية (أي مراعاة لظروف عابرة). صار ضرورة تاريخية. صار الانتماء الى لبنان أولوية أولى. أولوية أزاحت كل الأفكار القومية جانباً. تعالت الدولة على الأمة. لم يعد مهماً أمر الأمة. تصنع فيما بعد. أُجّل صنعها لأجل غير مسمى. الراهن في وعي الجميع هو الدولة. هذا ما يتوجب على الجميع الإقرار به.
الدولة إطار ناظم للمجتع. أقر به اتفاق الطائف لكنه بقي مجالا للنفاق وللتلاعب. ثورة 17 تشرين الأول أكدته نهائياً. انفجار بيوت 4 آب ثبته نهائياً. عندما تجوّل رئيس حزب الكتائب مع وليدته وزوجته في أسواق طرابلس الناصرية وصفق له الناس عامة، كان الأمر نموذجاً جديداً، وبرهاناً على ما سبق قوله هنا. معظم النواب لا يستطيعون التجوّل في مدنهم وقراهم.
القول هنا عن الدولة كاطار ناظم للسلطة والمجتمع. معنى ذلك الوعي بالدولة صار منغرزاً في وعي وفي ضمير الأفراد اللبنانيين. لم يعد لبنان تجمعاً لطوائف. صار الكيان السياسي الوحيد المعترف به في ضمائر اللبنانيين كأفراد. لم يهتف اللبنانيون في ثورة تشرين لإسقاط الدولة بل هتفوا لإسقاط النظام.
لم تع (من وعى) الطبقة السياسية الحاكمة، وربما جزء كبير من النخب الثقافية والسياسية، هذا التحوّل. بسبب ذلك حصل التناقض بين الدولة والنظام. لم تعِ هذه الطبقة أن النظام يجب أن يخضع للدولة. الدولة بما هي كيان لا شرط عليه. الدولة شرط لما عداها ولا شرط عليها. الدولة وحسب دون نعوت أو صفات، كمثل أن تكون قوية أو عادلة أو غير ذلك. الدولة قوية بانغراز الوعي بها في ضمائر أبنائها. الدولة عادلة بمقدار ما يخضع النظام لها، وبمقدار ما يكون النظام متناسباً مع القانون والدستور. تحولت الدولة من الإمكان الى التحقق، ذلك رغم الكوارث الهائلة التي ألحقها بها النظام. ربما كانت الكوارث هي ما سبب هذا التحوّل في الوعي. ربما كان الأمر مشابهاً لقيام كل دولة في العالم.
حدود كل دولة عشوائية الأصل. حدود الدول التي نشأت بعد حروب التحرر الوطني ضد الاستعمار هي حدود رسمها الاستعمار سابقاً بعشوائية ثابتة. حدود الدول الأوروبية نشأت بعد حروب دينية مدمرة. نشأت في عام 1648 إقراراً بما هو موجود لدى كل سلطة اقطاعية أو غيرها. كل دولة مصطنعة. يصنعها الانسان لا الطبيعة. تاريخ الدولة يولد فيما بعد. هو المخيلة التاريخية لتبرير الدولة الحاصلة. الدولة الأميركية حصلت بعد ثورة انفصالية في أواخر القرن الثامن عشر. تأكدت بعد حرب أهلية دموية في الربع الثالث من القرن التاسع عشر. الدولة الروسية حصلت بعد حروب توسعية دامية في شرق أوروبا وفي آسيا. ذلك بعد نقل العاصمة من كييف، العاصمة الراهنة لأوكرانيا، الى موسكو.
الدولة كيان مجرّد، شديد التجريد. هي الحدود الجغرافية. خطوط مرسومة. ربما كانت خطوطاً وهمية، لكنها هي ما يفصل في وعينا بين البلد وخارجه. عندما ندافع عن أرضنا، فنحن ندافع عن الأرض داخل الحدود، والأهم من ذلك، ندافع عن الناس داخل هذه الحدود، والأهم من ذلك أيضاً أننا قررنا العيش سوية داخل تلك الحدود. عندما نقرر العيش سوية كمواطنين داخل الحدود في الدولة، تكون هذه قد وجدت. الدولة هي الرغبة بالعيش سوية والمشاركة في قرارات النظام عن طريق الديمقراطية والحريات المفتوحة، بل المجتمع المفتوح. الديمقراطية في النهاية هي المجتمع المفتوح الذي يشارك كل الناس بحرية بتقرير مصيره ومساره. الدولة هي الناس. الدولة هي الديمقراطية. هي الناس في مجتمع مفتوح. لا مقدس فيها إلا الحرية. حرية أن يقول الانسان بما يفكر، أن يُظهر ما يُبطن، أن يتجاوز ازدواجية خطاب الفرد التي يتميّز بها عصر الاستبداد. نفاق خطاب الفرد يفرضه الاستبداد. هو السمة الأساسية لنظام الاستبداد: أن يكون خطابك العلني هو ما تمليه السلطة، وأن يكون خطابك المضمر هو خطابك الحقيقي. أن يستعيد الإنسان وحدته النفسية ولا يتوجس من كل من يقف بجانب الحائط يراقبه هو شأن ديمقراطي.
في الدولة الحديثة يسترد المواطن ضميره. يصير المضمر علنياً، ويصير الفرد مواطناً. حرية الفرد توازي حرية الرئيس وكل فرد آخر ضمن الحدود الجغرافية. تزول العداوة بين السلطة والمجتمع. تندمج السلطة في الدولة فتصير آلة بيد المجتمع.
الدولة مصطنعة. كل دولة مصطنعة. كل دولة قائمة على الحرية تصير طبيعية. الحرية تحوّل الحدود الجغرافية الى طبيعة ثانية لمواطنيها. الطبيعة أيضاً ليست إلا ما يصنع الانسان. هكذا شعب، مهما كان صغيراً، لا تستطيع قوة في الأرض أن تغلبه مهما كبرت جيوشها وأساطيلها. الحرية توحد المجتمع. المجتمع الموحد لا يُقهر. المجتمع المشرذم مهزوم دائماً. لا يحتاج الى قوة خارجية كي تهزمه. هو يهزم نفسه بالأساس.
اسرائيل جيش يمتلك مجتمع. هي دولة تحكم على نفسها بالزوال. هي شذوذ في عالم معولم وفي نفس الوقت متشكّل كله من دول مستقلة. أن تحكم اسرائيل على غيرها بعدم الاستقلال هي أيضاً تحكم على نفسها بعدم الاستقلال، ان لم نقل الزوال. عالم يتشكّل من دول مستقلة دون احتلال واحدة لأخرى، إلا شواذات قليلة تثبت القاعدة. مع حل الدولتين، حولت اسرائيل ما بقي من فلسطين الى رقع منفصلة دون حدود متصلة. الأمر نفسه سوف ينعكس على اسرائيل. هذا تناقض. لا بدّ من حل الدولة الواحدة، ولو مارست فيه اسرائيل الأبارتايد الذي لم يعد مقبولاً في العالم. يقولون أنهم أصحاب الأرض، وأن ذلك وعد من الله. سيأتي وقت يدركون فيه أن الله ليس أمين سر عقاري. وسيدركون أن الدولة وجدت كي يعيش الناس ضمن الحدود (في حل الدولة الواحدة) وأن يعيشون سوية. الدولة تعني الاتصال لا الانفصال. ستغرق اسرائيل في تناقضاتها الداخلية. يقاومها الشعب الفلسطيني، والعرب عامة، دون المنظومة الحاكمة لهم. يقاوم هذه التناقضات. مع تحوّل فلسطين، بما فيها اسرائيل، الى دولة يهودية، سوف تتحوّل الى دولة عربية. هذه ليست دعوة للتطبيع والخيانة. هي دعوة لمقاومة يهودية اسرائيل.
أحد أزمات العالم المعاصر تعارض النيوليبرالية مع الدولة؛ تعارضاً نظرياً حتى الآن وواقعيا في كل الأحوال. الرأسمالية العالمية تقاوم الدولة في كل مكان. حتى الولايات المتحدة تتشلّع بفعل عنصرية غير رسمية وغير شرعية. عنصرية تقارب الأبارتايد. كل دولة في العالم متعددة الاثنيات. تتفتت داخلياً بفعل الابارتايد. الدولة تعني العيش سوية ضمن الحدود كما هي لا ضمن الحدود المتخيلة للاثنيات والقوميات. الحدود الجغرافية بين الدول تفصل بينها وتوحد الذين يعيشون بداخلها. الحدود واقعية والجماعات العائشة ضمنها متخيلة الوحدة. بالسياسة تتخيل الشعوب وحدتها وتحولها الى التحقق. هذه طوباوية. فليكن. هل يستطيع الانسان أن يعيش دون طوباوية.
يشكّل العرب وحدة طوباوية. ثبت ذلك في ثورة 2011، حين انفجرت الثورة في كل الأمكنة العربية. نبض واحد. لكن الوحدة الشكلية، الوحدة العربية لن تتحقق إلا كوحدة دول قطرية؛ هذا إذا أرادت شعوب دولها القطرية. المقصود هو أن الوحدة العربية ستكون إن تحققت وحدة دول لا وحدة شعوب. الشعوب موحدة على ما في كل منها من تعددية قوميات وحركات انفصالية. لا تستطيع أية منها الانفصال لأن حدود كل دولة شبه نهائية. ربما تحولت الدول العربية الى الفيدرالية أو الكونفيدرالية. لكن عصر تجزئتها انتهى. وإذا حصل انفصال فليكن ذلك بسلام. وإذا لم يكن الأمر كذلك ستعاني الأجزاء المنفصلة حروباً أهلية كما في السودان الجنوبي. الحدود (الدول) نهائية حتى اشعار آخر.
تحاول النيوليبرالية تفتيت الشعوب وضرب وحدة الدول عن طريق التلاعب بالاثنيات. وذلك أصبح واحداً من أزماتها، إضافة الى أزمتها الاقتصادية والمالية. في ظل سيطرة المال (الاستثمار)، يتناقض المال مع الاقتصاد المنتج. استمرار ذلك سيكون مقتلها. حتى الآن لا يبدو أن نظاماً آخر هو في الأفق. لكن أزمة الرأسمالية تتفاقم وتدفع الشعوب ثمن ذلك. حروب العالم الراهنة لا تنشب من أجل نظام جديد، بل تنشب لأن النيوليبرالية تحرق العالم. وقوة الحريق نابعة من الهويات.
الهوية سم قاتل. كأي مادة يمكن أن تكون هناك فائدة منها إذا أخذت بعيارات متدنية، وسامة إذا أخذت بعيارات كبيرة. ليس صدفة أن تعبير هوية يفيد الأنا الفردية والجمعية، لكنه مشتق من كلمة هو التي تعني الآخر. تعبير يحمل تناقضه في ذاته.
في كل دولة، تحرق الهوية المجتمع ان لم تخفف من حدتها السياسة. تبنى الدولة وتستمر بالسياسة. بالاستبداد والنيوليبرالية تلغى الدولة وتلغى السياسة. مشكلة لبنان هو في هذه الليبرالية الممزوجة بعصبية (استبداد) الطوائف أو الطائفية. السياسة تعني الحوار. الطائفية تعني غيابه؛ كذلك النيوليبرالية. كل منهما يقود الى الانفجارات والحرائق والحروب الأهلية. انفجار بيروت مثل على ذلك. نظام طائفي يلغي الناس ولا يحترم قيمهم. بل لا يحترم وجودهم. ما يُسمى “إهمال” كسبب لانفجار المرفأ هو في حقيقته استخفاف بالناس ووجودهم. وقد قلنا أن رب النيوليبرالية هو المال الذي لا يلزمه الناس إلا قليلاً. موتهم بأعداد صغيرة أو كبيرة يفيد المال والنيوليبرالية. فرصة لشراء أو مصادرة عقارات الموتى والأحياء الذين أُفقروا. والعقارات أهم خزان للمال. “شراء” العقارات بدأ في اليوم الأول بعد الانفجار. أموال فائضة تجد استثمارها في الموت. الموت الذي هو سبيل الوصول للعقارات.
في الوقت الذي تنمو هوية الانتماء للدولة والسياسة، هناك من يسعى لكي يؤجج الفاشية والطائفية. طائفية سياسية تحمي نفسها بالفاشية. عيارها يختلف بين طائفة وأخرى، معتمداً على “حنكة” قيادات الطوائف، ومن وراءهم من قوى رأسمالية خبيثة. تعرف هذه القيادات الخطر أو الأخطار التي تداهمها فيزداد تمسكها بالنظام. لا انتخابات مبكرة. بالحقيقة، رفض أي تغيير في النظام ما لم تستطع هذه القيادات مع الوقت توليد نظام يلائمها، أو الاستمرار بالتركيبة الراهنة. عندما اندلعت ثورة 17 تشرين الأول، واجهتها أحزاب السلطة بشعارات فاشية طائفية. كانت المواجهة مبرمجة وشاركت فيها القوى الأمنية، ولو بشكل محدود. القوى الأمنية تنقاد عادة للسلطة ولأحزاب السلطة. انعزالية جديدة في غير طوائف.
تحولت الهوية لا لقومية لبنانية ولا لقومية عربية. تحولت الى انتماء للدولة، حيث المواطن تحلل، ولو جزئياً، من الانضواء الطائفي، الأمر الذي أحدث هلعاً لدى الطبقة الحاكمة. فقدت هذه الطبقة، لدرجة أو لأخرى، وسيلتها الأنجع لجكم لبنان. الفراغ السياسي الحاصل هو هذه الفجوة بين الهوية والنظام السياسي، بين المجتمع وحكامه. هي فجوة بالوعي لم تدركها الطبقة الحاكمة. هنا مقتلها. لا تجرؤ على انتخابات مبكرة سواء نيابية أو رئاسية. هذه الفجوة سوف تطيح بالطبقة الحاكمة، وربما مقتل اسرائيل أيضاً. المقاومة تجردت بهذا الوعي. لا تستمر مقاومة دون تطوّر. تطوّر في الوعي وفي كل ذات فردية في المجتمع؛ ذات فردية أصبحت جماعية. ولادة جديدة للبنان الذي تأسس عام 1920، وتطوّر لا كما أراد أبناؤه. لبنان القديم صار مرفوضاً. لبنان الجديد احتمال جدي. هذا ما لا تدركه، أو لا تريد الإقرار به الطبقة الحاكمة. لا تزال تعمل وكأن لبنان القديم ما زال قائماً.