لبنان الى متاهات ألفية
لو فُوّض الموساد الاسرائيلي لكتابة سيناريو حول تدمير لبنان لما وصل الى أكمل من السيناريو الذي يحدث اليوم بأيدي الطبقة السياسية اللبنانية. لم يعد مهما القول أن أحدهم في لبنان، من السياسيين أو غيرهم، هو عميل خارجي، ينفذ خطة خارجية، ينضوي تحت هالة قوة خارجية، ينفذ أدوار جهة خارجية. كلهم أو غالبيتهم العظمى يفعلون ما تريده اسرائيل، وذلك حسب سيناريو متقن وضعه الموساد. على كل حال، القوى الداخلية تجيد تدمير بلدها. تجيد الانتحار. لا تحتاج لأحد أن يعلمها. تعطي دروساً في الموضوع. هو نظام أو منظومة سياسية-اجتماعية دفعت للانهيار بأيدي لبنانية. تقودها الطبقة السياسية بفرح عظيم. هل كانت المصارف (الرأسمالية المالية) تعرف الطريق التي دفعت إليها أو سارت فيها بمشيئتها؟
يتبارى الساسة اللبنانيون في بذل الطاعة للقوى الخارجية. الأسباب حسب القوة الخارجية تكون لتأمين السياسة الخارجية وتنفيذها لقاء بدل أو استفادة مادية من نوع آخر. وأحياناً بذل الأرواح (اللبنانية) لخدمة القوى الأجنبية، حتى يكاد الاستشهاد في لبنان يعتبر مهنة يتم تصنيعها جماعياً في معامل دينية. على مقلب ثان فريق سياسي متأصل في لبنان يكاد أن يتزعزع بفضل المستشارين.
راسبوتين يزعزع كيانه كما فعل الراهب راسبوتين الأصلي في بلاط رومانوف وزعزع امبراطورية رومانوف التي حكمت أكثر من خمسة قرون. راسبوتين لبنان يحاول أن يبني سلالة محلية، ليس للتوسّع كما حدث في روسيا الامبراطورية، بل الانهيار والضمور، ربما التلاشي، كما يحدث في لبنان. وجه التشابه أن انهيار الامبراطورية الروسية حدث من الداخل، بفعل قوى داخلية. محور الانهيار كان داخليا. الانهيار في لبنان سببه الصراعات الداخلية. وفي لبنان أكثر من امبراطورية. لكل من هذه الامبراطوريات راسبوتينها. أصبح غير مجدياً شتمهم. تعودنا على ذلك منذ استقلال لبنان وقبله. عنوان أو شعار امبراطورية لبنان الحالية: “اللي استحوا ماتوا”. منذ عقود نسمع الكلام نفسه عن النظام. أربابه يفعلونه بدون حياء. كان سياسيو لبنان قبل هذا العهد يتمتعون به.
الذين يتحدثون عن “الزمن الجميل” الذي مضى قبل 1957، فاتهم أن صحف لبنان كانت أيضاً تتحدث عن الفساد، فساد الطبقة السياسية، وأحزمة البؤس حول بيروت. اعمار بيروت، بل نهوضها، في الخمسينات والستينات حتى 1975 قام على أكتاف عمال فقراء يعملون في المدينة وينامون في أحزمة البؤس. ضواحي بيوت التنك حول بيروت الإدارية وفي داخلها. كان هؤلاء العمال يصلون الى أكواخهم مشياً على الأقدام. الرساميل المستخدمة في لبنان الزمن الجميل، كان بعضها داخلياً، ويقال أن بعضها مستورداً، والكثير منها لرأسماليين تلببنوا (نالوا الجنسية) لاحقاً.
معلقو المحطات الفضائية، وجزء كبير من كتاب الجرائد ومواقع الانترنت، يضعون اللائمة على اتفاق الطائف لأسباب معروفة. ينسون أن اتفاق الطائف وضع حلاً لوضع متعب بين اللاعبين (السياسيين اللبنانيين) الذين ما زالوا هم وغيرهم يمارسون اللعبة حسب قواعد الليبرالية الجديدة التي ورثت ليبرالية الزمن الجميل. الفرق بينهما قلة الحياء. طبقة سياسية فقدت كل مقومات الأخلاق. الأهم من ذلك انه قبل 1975 كانوا يدفعون من جيوبهم قبل الوجاهة ويستردون “حقوقهم” اذا استردوها، بعد دخول هيكل السياسة. بعضهم أفلس. الحرامية في كل وزارة أو زاوية من النظام. لا يحبون أن يكون بينهم من يتقيّد بأصول الأخلاق والقانون. يطردون أمثاله من السلطة أو يغتالونه.
لم يحسن كمال الصليبي التنبؤ بما يحصل في لبنان، وإن أصاب في بعض التحليل. ما يحصل يستعصي توقعه على كل العقول والعبقريات. نحن في زمن نيوليبرالية وإلهها المال. الكل يخضعون لهذا الإله الذي لا يريد أن يتعبد له سوى القلة القليلة (يعدون على الأصابع) والبقية الى الجحيم. تغيّر نظام لبنان ولكن الأمر صار حسب قواعد جديدة لا علاقة لها بالسياسة أو الحشمة أو الكياسة. نأتي هنا الي بيت القصيد. الرأسمال المالي.
الطبقة الجديدة حتى ولو كان في عدادها، أو على رأس طوائفها، زعماء ميليشيات سابقين وحاليين، كان يأتيهم المال من الخارج. حاليا، ينهبون المال من الداخل. ما حصل في المصارف يثبت ذلك. يطلع علينا القادة، دون استثناء، بخطابة كي لا يذكروا ودائع الناس في المصارف. يسكت عنها الجميع. رؤوس الأموال الكبيرة، أو المال المنهوب، هرب الى الخارج. لم يبق في المصارف إلا ايداعات الصغار الذين سوف تُحل الأزمة، إذا حُلت، على حساب ودائعهم، ان بقى منها شيء. الأزمات الأخرى، مثل الكهرباء والنفايات والمال والطرقات والضمانات الاجتماعية، الخ… جميعها مفتعلة. سببها النهب. عبادة رأس المال المالي.
أخيراً، انفجار بيروت وتدمير المدينة وإلغاء وظائفها. هذا أيضاً مفتعل. التحقيق جار. قامت به الأجهزة الداخلية وفرق تحقيق خارجية. نتيجة التحقيقات معروفة سلفاً. يبقى كشف الاسم لعدم تجهيل الفاعل. بالطبع اسرائيل وقوة داخلية. صمت مطبق على اسم الفاعل الداخلي الذي يتجاهل اسمه الجميع. من يجرؤ على الكلام؟ التعبير الأخير عنوان كتاب لأحد النواب الأميركيين المعادين لإسرائيل. بعدها أسقط من النيابة نهائياً. ولبنان موعود بالنفط من البحر. هكذا يعتقدون أن يكون خروج لبنان من أزماته. يصير دولة نفطية بمواصفات الدول العربية النفطية.
الطريق الى ذلك تدمير ما هو موجود. “ما بتعمر حتى تخرب”. بعد الخراب يأتي المنتظر. هذه المرة هو النفط. تعقد جمعية تأسيسية للبنان الجديد بنظام جديد تأخذ الطوائف منه حقوقها. وهذا أمرمشكوك فيه. لكن أصدق من الحقيقة عندهم. سيكون هناك، كما يعتقدون، فائض للتوطين والتهجير، بعد حرب إبادة تكون أداتها، أو واحدة من أدواتها، اقتلاع اللبنانيين من أرضهم. هجرة اللبنانيين، وقد بدأت، ستكون نتيجتها جلب غير لبنانيين، أقل مهارة وتعليما وأقل أجراً. ستكون الحجة ندرة السكان، خاصة العاملين في لبنان. يريدون عمالاً آخرين بمتطلبات أقل. صار اللبنانيون من جميع المهارات عبئاً على لبنان. مع هجرة هؤلاء، سيعم المجال وعي ظلامي (مجلل بالسواد).
أما عن الجميعة التأسيسية من أجل إطلاق نظام جديد؟ من قال أن النظام الجديد سيكون غير رأسمالي، ولن يرتكب الموبقات نفسها؟ ومن الذي سوف ينتقي أعضاء الجمعية التأسيسية؟ من سيكون في عدادها؟ من سوف يديرها؟ وهل يلزم كل ذلك إذا كان هناك دستوريمكن تعديله ببرلمان منتخب؟ وهل جمعية تأسيسية منتقاة أفضل من مجلس نيابي منتخب من الناس، ولو كان فيه سيئات كثيرة؟ ولماذا الربط بين النظام الحالي والطائف؟ اتفاق الطائف انتهت مهمته. تعدل الدستور على أساسه وانتهت مهمته. لبنان لا يعيش في ظل اتفاق الطائف، بل في ظل الدستور. إذا كان أهل السلطة يحترمون الدستور. أليس تعديل الدستور أسهل وأقل تكلفة؟ لماذا نبدأ من جديد وكأن هناك انقلاباً في لبنان؟ الانقلابات تأتي بدساتير جديدة. ألا يعرف المتشدقون أن القسم الأكبر من قوانينا موروثة من العصر العثماني؟ كذلك سندات الملكية (الطابو).
ماذا عن التراكم؟ غير تراكم الثروات. تراكم الانجازات. تراكم القوانين. تراكم التجارب. تُلغى السياسة كي يبدأ البلد (النظام) من جديد. السياسة تعني في بعض وجوهها تراكم التسويات. ألا يعرف الجميع أن لبنان يراكم على إرث عثماني، وربما ما قبل ذلك. ويراكم على إرث فرنسي. ويراكم على ما قبل الحرب الأهلية، وربما على الحرب الأهلية. أما زلنا نستعمل مفردات ومصطلحات أحدثتها الحرب الأهلية؟ لماذا نحذف من تاريخنا الحديث سنوات الحرب الأهلية ومعانيها ومغازيها؟ ولماذا نحذف فترة ما بعد الحرب الأهلية وانجازاتها؟ لماذا يصر البعض على انقلاب بعدما حدثت ثورة 17 تشرين؟ أم أنه انقلاب على الثورة؟ الثورة لم تفشل لأنها حدثت. وكل ثورة حدثت هي نقطة تحوّل. هذا ما حصل في 17 تشرين. وما يحصل الآن انقلاب على الثورة. الثورة لحظة احتلال الناس المجال العام. الانقلاب تقوم به نخبة تخطط في السراديب. التخطيط قد يطول. الثورة عفوية تلقائية. الانقلاب مسيرة نخبوية تلقائية.
كل ذلك عكس السياسة. هذه جوهرها التسوية والتراكم. والتسوية هي القبول ببعض مما لا تحب لأنه ممكن. ترفض ما تحب عندما يكون غير ممكن. هي التخلي عن بعض الحق الذي تعتبره يمثلك من أجل الالتقاء مع خصم عليه، يتخلى عن بعض الحق في رؤيته وإلا انعدم التلاقي. انعدم المشترك. انعدم العيش سوية. التراكم هو قليل من الممكن من الانجازات. اصلاحات جزئية، دون انتظار هبوط شخصية أو قوة كارزمية تحقق العدل دفعة واحدة. الديمقراطية تراكم منجزات صغرى. تراكمها هو الانجاز الكبير. التسوية هي الاعتقاد بنسبية الموقف. فيها تخل عن بعض الحق من أجل أن نلتقي الخصم الذي يتخلى عن بعض حقه ليلتقي الاثنان في نقطة مشتركة. دون التسوية والتراكم والسياسة يستحيل الالتقاء والانجاز والعيش سوية.
نحن في نظام برلماني. أعضاؤه منتخبون. يمكنهم أن يعدلوا الدستور، بعضه أو كله. لماذا التخلي عن مجلس منتخب والذهاب الى جمعية تأسيسية غير منتخبة من أجل دستور جديد؟ من قال أن الدستور الجديد سيكون أفضل من القديم؟ إدخال اصلاحات على القديم أجدى وأنفع. هو وحده الذي يكون تحسيناً على القديم. دستور جديد كلياً سيكون أسوأ.
يتحدثون عن الطائف أكثر من الدستور. الطائف مات. أدى مهمته وهي إنهاء الحرب الأهلية. انتهى دوره. هو اتفاق تسوية نتج عنه تراكم ظهر في تعديل الدستور. هذا أصبح أساساً ومرجعاً للسياسة. غريب أن يكون لدينا أداة تعمل، ولو بأقل مما نرجو، ونعمد الى أداة تأخذنا الى المجهول. ولا ندري أنها تعمل. الانقلاب يأخذنا الى المجهول دائماً. الثورة تحدث. كونها حدثت يعني أنها لم تفشل. كونها حدثت يعني أن غيرها بما فيه نظام الحكم قد فشل. إذا لم يستجب الحكام للثورة أو بعض مطالبها، فالمشكلة ليست في الثورة بل في أعدائها. لم يتبرّأ أعداؤها من ثورة مضادة افتعلوها برفع شعارات طائفية نقية. قالوا أن هذه الثورة لا تناسب طائفة معينة. طائفة كيانها قائم على الثورة. تاريخها كله ثورات. ترفض الثورة؟ أمر عجيب. انضم أصحاب الحق لأعداء الحق. أصحاب الثورة لأعداء الثورة.
حدثت الثورة. مطالبها إصلاحية. عطل المسيرة أصحاب الثورة المضادة لصالح الطبقة العليا، الرأسمالية الكبرى؛ من حيث يعلمون أو لا يعلمون. الجهل عدو الانسان. رحم الله من قال عدو عالم ولا صديق جاهل. الثورة حدث. الإصلاح مسيرة. الثورة عبرت عن غضب الناس ومطالبهم. الثورة المضادة عاقبت الثورة. حولت المطالب المحقة الى عكسها. بدل تراكم الإصلاحات، حققت الثورة المضادة تراجعاً للوراء. ساءت أحوال الناس نتيجة فحش الثورة المضادة. الثورة المضادة سلطة قمعية وطائفية تحمي الفساد. بالأحرى، تحمي المرتشين والسماسرة وأصحاب الصفقات المشبوهة ومهربي الأموال المسروقة. عوقب أصحاب الثورة بالقمع وبما هو أسوأ: بالإفقار والتهجير والإبادة. انفجار بيروت حصيلة إهمال؟ لا بل حصيلة الثورة المضادة. معروفة أسبابها كما هي معروفة نتائجها البادية للعيان.
يا فقراء لبنان، مهرة لبنان، دكاترة لبنان، أطباء لبنان، هيئوا أنفسكم للرحيل. بدأت تباشير إخراج النفط. لم يعد لكم مكان في لبنان. المهاجرون المهجرون لم ينتظروا هذه السطور. انفجار المرفأ رن جرس الخروج.