لا خوف على الدين من الغزو الثقافي
في الوعي السائد لدينا تتقدم الأمة على الدولة وتعلوها. يعتبر معظمنا أن الأمة كيان عضوي ينام ثم ينبعث وإن اختلفوا على كون التعبير أمة الإسلامية أو أمة عربية، لكن الأمر سيان. هما تعبيران كل واحدهما مكان الأخر. لا يكسب العلمانيون شيئاً بالفصل بين الدين والدولة، أو بين الدين والسياسة، إذا كانت معاني الواحدة تؤخذ منها وتوضع على الأخرى. بذلك يمكنك أن تكون علمانياً بينما التعابير والمضامين التي تسعملها في شؤون الدولة جميعها دينية. للدين مصطلحاته ومعانيه وللدولة مصطلحاتها ومعانيها. فصل الإثنين يتطلّب أن لا نستخدم الواحدة منهما في الأخرى. وأن نحيّد الدين. وان نستخدم مصطلحات الدولة والسياسة.
من أمثال ذلك اعتبار الأمة كياناً يغفو ثم يفيق مثل طائر الفينيق، أو أن الأمة كائن علوي يتجلى أحياناً في أحداث واقعية، فيحدث النهوض. والأدهى أن يعتبر البعض أن الأمة كائن يقرر متى ينهض فيشكل الدولة والمواطن. في كل ذلك الأمة هبة من السماء.
في السياسة الأمة تتبع الدولة وتحققها الدولة. عندما تموت أو تغفو أو يصيبها الانحطاط فتندثر وربما تبقى لغتها لأسباب دينية، وهذا شأن لا أساس له بالسياسة. دستورها يصنعه الناس. الناس في علاقاتهم يمارسون السياسة. السياسة تراكم التسويات. يراعون بذلك مصالحهم واختلافاتهم. يُرحّب بالمختلف. يُعلى من شأن المتعدد. التشابه قسري ومقيت يفرض بالقوة. لا يُفرض التشابه إلا بالقمع عن طريق الاستبداد. يلتقي الدين والاستبداد على تفضيل التشابه وإن اختلف موضوع التشابه في واحد منهما عن الآخر. ربما أراد الاستبداد تشابه الناس في الاستخفاف بالمبادئ الدينية. وربما أراد أصحاب الدين تشابه الناس في الطقوس. متفقان على شكل التشابه ومختلفان على المضمون. لكن عدوهما مشترك وهو السياسة ومساهمة المجتمع في القرار وخطره على كل منهما.
هناك فرق بين اعتبارين أحدهما أن الأمة متحققة دائماً. إما في حالة يقظة أو كمون، والدولة هي التي تغيب وتحضر وهي التي تموت وتحيا. الاعتبار الثاني هو أن الأمة مرهون وجودها بالناس، بإرادة الناس، تموت أو تحيا مع موت أو حياة السياسة، أو بالأحرى وجود الدولة هو الذي يقرر الأمة ووجودها.
ليس الأمر أن نفضّل الدين على الدولة، فيتواجدا بالتوازي، بل أن نهمّش أحدهما فيخضع للآخر. علمانيتنا السائدة لا تقضي بذلك. لا ترى تهميش الدين وحصره بالإيمان، وأولوية السياسة. لا يقصدون بالعلمانية أن الدستور والقوانين ليسا شريعة تُملى من السماء بل كيان سياسي ينشأ بإرادة الناس ويكون نتيجة وعيهم حتى ولو كانت خلفية هذا الوعي دينية. في العلمانية الحقة هناك قطبان: أحدهما السماء وثانيهما الأرض. إذا اعتبرت أن ما يجري يقرره من على الأرض فأنت علماني، ولا يتعلق ذلك بالإيمان بالله؛ وإذا اعتبرت أن ما يجري على الأرض تقرره السماء، تكون ضد العلمانية حتى ولو كفرت. لا تتعلّق العلمانية بالكفر والإيمان بل بالسياسة ومن يصنعها، بالأحرى من يمليها، قطب السماء أو قطب الأرض. باختصار، تكون العلمانية أو عدمها حسب الاعتبار أن ما يجري على الأرض يراه أهل الأرض بضمائرهم أو السماء بوكلائها من أصحاب العمائم وغيرها.
الدين السياسي منتصر سياسياً في المجتمعات السياسية ما دام قادراً على فرض الشريعة كمصدر للدستور والقانون أو أحد مصادر التشريع. أدى ذلك الى إغلاق العقل. إذ بات المجتمع يدور حول نفسه معتبراً أن ما عنده من الموروث الثقافي يكفي. الأمر يجب أن يكون كذلك كونه موحى به من السماء ويتلقفه وكلاء السماء (أهل العمائم بالدرجة الأولى وغيرهم من غير رجال الدين الذين يشكلون غالبية المجتمع بمزاجهم الديني الذي يدور حول الذات كمعطى من السماء). يؤدي ذلك الى انغلاق العقل والدوران حول نفسه. من مظاهر ذلك الدعوات المتكررة لدى النخب الإسلامية الى أسلمة العلوم الحديثة كالفيزياء، والكيمياء، والبيولوجيا، وعلم النفس، الخ…؛ فكأن المعرفة، معرفة الطبيعة، تكون إسلامية أو غير إسلامية، وكأن ذرات الفيزياء يهمها الى أي دين انتمت. يصر هؤلاء المثقفون على التقوقع في ثقافة يعتبرونها إسلامية، ويعتبرون أن نظريتها الحديثة يجب أن تبقى كيانا منفصلاً. فهناك مواجهة بين الثقافة الإسلامية والثقافة الحديثة، أي الغربية. ولا يدرون أنهم يمارسون عنصرية ثقافية مضادة. يعترفون ضمناً بتفوّق ثقافة الغرب ولا يريدون الأخذ بها. في رأيهم أن دخول الثقافة الغربية الى بلادنا، أو “تسللها” الى عقولنا. هي مؤامرة غربية.
كل ذلك ناتج عن خوف المسلمين على دينهم. هو تعبير عن دونية غير معلنة. فاتهم أن الثقافة الإسلامية ذاتها، حتى في أيام عزها، وتقدمها على كل ثقافات العالم، هي مزيج من ثقافات متعددة بلغة عربية. حتى في أيام التراجع السياسي اللاحق، كان المجتمع مرتاحاً الى وضعه ولم يخش الثقافات الأخرى، بل عمل على استيعابها.
لا خوف على الدين إلا من أصحابه. دين يشكل أصحابه ربع سكان المعمورة يخشى التقدم والانفتاح. ويقف على نفسه فكأنه يعلن الهزيمة الثقافية سلفاً. ليست المجتمعات الإسلامية بحاجة الى أسلمة العلوم الحديثة. هي بحاجة الى تبني العلوم الحديثة والى نقل الإسلام الى الحداثة والى تبني الثقافة الغربية. ذلك لا يكون بجعل كل قطاعات المجتمع إسلامية بل بجعل الدين قطاعاً في المجتمع. لا يخسر المسلمون دينهم في هذه الحال بل يحافظون عليه. الحداثة داخلة الى مجتمعاتنا شئنا أم أبينا. مجتمعاتنا تستخدم التكنولوجيا الغربية حتى الثمالة. الأفضل لها أن تدخل الثقافة الغربية إليها عن طريق علومها وفلسفاتها ونظرياتها، لا عن طريق التكنولوجيا وحدها. لا نواجه الأفعى بالتقاطها من ذنبها بل من رأسها. عندما نستوعب العلوم الحديثة نتقدم في الحقل المعرفي النظري وننتج التكنولوجيا ونخفّض اعتمادنا على الغرب وتبعيتنا له. التبعية جوهر الامبريالية الثقافية ثم السياسية والاقتصادية. نتخلص من التبعية بالإنتاج النظري والمعرفي عامة. بالخروج الى العالم والنظر الى تراثنا من خارجه لا من داخله. لا بدّ من ممارسة النقد على أنفسنا. لا بدّ من الإقلاع عن تقديس ثقافتنا وتراثنا.
أن نتبنى الثقافة الغربية أي الحداثة أي الثقافة العالمية بإرادتنا خير من أن ندعها تدخل بإرادة غيرنا. عندها نسيطر على المعرفة. ولا ندع معرفة الغير تسيطر علينا، وبذلك يسيطر علينا أصحاب هذه المعرفة ومنتجوها. بإرادتنا نصنع العلم الحديث. بإرادة الغير نستورد العلم والتكنولوجيا ونخضع لصنّاعهما. بإرادتنا نحرر ذاتنا من ذاتها القديمة، ولا نبقى ندور حول الغير. الفرق بين التقدم والتأخر هو الفرق بين المعرفة والجهل. وهو أيضاً الفرق بين استيعاب العلم الحديث وبين الاكتفاء باستيراد التكنولوجيا الحديثة دون العلم الذي أدى الى صنعها. الخوف من العلم الحديث، الخوف من الغزو الثقافي هو خوف على أنفسنا من أنفسنا. هو خوف يعبّر عن طفولة ثقافية، فكأننا لسنا مجتمعات قديمة قدم الحضارة. وكأننا مجتمعات لم تكن أساسية في مراحل تاريخية ماضية في صنع ما أدى الى الحداثة. نتقدم ونصير أقوياء حين لا نبقى عبيداً لثقافتنا الموروثة. من يرضى أن يكون عبداً في شيء يرضى أن يكون عبداً لأشياء أخرى بما في ذلك العبودية أو التبعية للغير. الإيمان بالله لا يمنع من الإيمان بأنفسنا، والوثوق بإرداتنا والخلاص من التبعية. المجتمعات الإسلامية الآن أتباع ثقافيا (وغير ثقافيا)، مما يعني أن في الأمر تناقضاً مع الإيمان بالله وخروجا على إرادته. لا نكون كمجتمعات وكبشر خلفاء الله في الأرض ما دمنا على تبعيتنا الثقافية؛ والعزلة الثقافية نوع من التبعية. آن لنا أن نرى في الهزيمة كفر، وفي الدين السياسي خروج على الدين. الخوارج حصروا الدين بالسياسة، بالخلافة أولاً، فخرجوا على الدين، أو هم منزلة بين المنزلتين. الدين السياسي، وهو مزاج عام بين المسلمين، استمرار للخوارج.
ندرس التراث كجزء من التاريخ؛ وهذا تطوّر يستدعي الخروج من القديم والابتهاج بالتجديد. التجديد إبداع. ليست كل بدعة ضلالة. البدعة أن يكون الدين المجتمع لا جزءاً من المجتمع، بالأحرى قطاع منه.
الدافع الى هذا الحديث هو الحرص على أن تكون هذه المجتمعات قادرة على الدفاع عن نفسها وإثبات وجودها والخروج من الهزيمة. الهزيمة هي بمثابة كفر. بالهزيمة تخالفون إرادة الله. لن تكونوا “خير أمة أخرجت الى الناس” كما ورد في الكتاب العزيز، وأنتم مهزومون تفرضون العزلة على أنفسكم، وتفترضون الهزيمة نصراً، وتعللون النفس بأوهام الذات والسكن في الماضي والإغراق في الدونية. والدونية العلمية دونية ثقافية تقود الى الانهزام. ليست الهزيمة أن يهزمك الغير وحسب، بل هي في الأساس أن تنهزم أمام ذاتك، وأمام تاريخك، وبأن لا تخرج من ماضيك. السكن في الماضي هزيمة. السكن في التراث دونية. الخروج الى العالم يتطلّب شجاعة؛ شجاعة المجتمع الواثق من نفسه ومستقبله. الواثق من نفسه يصنع مصيره. الخائف يترك الغير يصنع مستقبله له ويشكل إرادته عنه. في هذا الخوف على الدين جهل ليس فقط بالثقافة العالمية الحديثة وليس فقط إهمال للعلم الحديث، بل هو جهل بأنفسنا وتاريخنا. لن نحقق لأنفسنا مكان في عالم اليوم إلا بالعلم الحديث واقتحام المجهول. ليس المطلوب استيراد التكنولوجيا وحسب، ولا العلم الحديث وحسب، بل توطينهما بمعنى جعلهما جزءاً من ذاتنا. كنا كذلك في عصور الثقافة العربية عندما كانت تتقدم العالم. وكانت لغتها هي لغة العلم في العالم. لا بدّ ان نعود كذلك بتجاوز ما نحن فيه. الجهل حاضرنا. لا بد أن يكون العلم الحديث مستقبلنا.