التراث والسياسة
التراث هو ما مضى، ما تراكم عبر الدهور من أفكار وسلوكيات ومواقف صارت لنا هادياً في أعمالنا وممارساتنا وأفكارنا. التراث بعدما يحدث للمرة الأولى، يصير له نوع من القدسية، خاصة عندما يكون مكتوباً. بالطبع تتفاوت أنواع التراث من الفقه، الى الكتاب المقدس، الى العلم الطبيعي، الى مختلف المعاملات التجارية، والعقود، وطرائق الطعام، واللباس، والبناء، الخ… تتفاوت هذه جميعاً في تأثيرها علينا. يستعمل البعض تعبير الثقافة وكأنها التراث. البعض يجعل التراث مقتصراً على الأمور الفكرية والمعنوية، فتسمى ثقافة. والحضارة هي ما شمل الأمور المادية.
السياسة تعامل مع الحاضر. كثيراً ما تواجه أحداثاً لا تستطيع قياسها على حوادث التراث وتقليدها، فتضطر للابتداع وتجاوز الماضي والخروج على التراث. السياسة في بعض نواحيها صنع للمستقبل. يجب أن يختلف المستقبل عن الماضي والا تجمّد المجتمع وامتنع عن التطوّر. المجتمعات التي لا تتطوّر تتجمّد مكانها. تتوقف عن التطوّر. يسبقها غيرها بتقدمه الى الأمام. يستخدم أنواعاً جديدة من الأفكار يستقوي بها. يسيطر على ما عداه من شعوب قريبة أو بعيدة. يتولد فارق القوة من التقدم والتجدد لدى بعض الشعوب التي تتفوّق على الغير. يؤدي فارق القوة الى الاحتلال وما يتبعه من نهب للموارد واستغلال البشر واستهانة بالشرف وإذلال للكرامة. حتى عندما يزول الاحتلال المباشر تبقى الهيمنة، تُسمى الامبريالية، وهي ممارسة الاستعمار أو بعضه دون احتلال مباشر. مع تقدم أصحاب الامبريالية، يصبح أسلوب حياتهم مغريا، ويصير مصدراً للتقليد. أهالي المستعمرات أو الخاضعة للهيمنة يقلدون القوى المسيطرة والمهيمنة في أفكارهم وسلوكهم في الوقت الذي يقلدون تراثهم. يعتقد أصحاب الهيمنة الامبريالية أن مصالحهم المادية والسياسية تصير أكثر أماناً عندما يقلدهم الآخرون. يدري أو لا يدري الأغيار أن التحرر الوطني لا يحررهم من السيطرة أو الهيمنة أو من الخضوع بشتى أشكاله. يريدون تغيير أو تجديد التراث كي يصير أكثر مطواعية لمشاريعهم المادية والمعنوية. يتنافسون مع القوى الامبريالية على “إحياء” التراث. قليلاً ما يعترف هؤلاء وأولئك أن في إحياء التراث تجديداً وتغييراً. الصراع على التراث في معظم الأحيان ليس صراعاً على حقيقة التاريخ، بل هو صراع على الحاضر والمصالح الراهنة. يصير تخيّل التراث أمراً ملحاً. فارق القوة يمنح أصحابه قوة أكبر على التخيّل. يبرع أصحاب التراث الأصليون، السكان الأصليون، على المحافظة عليه. يفوتهم خلال ذلك أن ما يحافظون عليه يتغيّر بين أيديهم وفي عقولهم. تغور أحاسيس ومشاعر المسيطر عليهم في خضم الصراع بين “المحافظين” المحليين “والمجددين” الامبرياليين. يكاد يغيب في خضم هذا الصراع المصالح الحقيقية للشعوب المغلوبة.
موضوع الاستشراق جزء من هذا الصراع. هو مثل رأس جانوس، له وجهان، واحدهما ايجابي والآخر سلبي. أجهزة الامبريالية هي الأقوى بما لديها من مراكز بحث وأجهزة تفكير. وهي موضوعية كي تستطيع فهم المادة التي بين أيديها، ولو كانت غير حيادية تجاهها. أحياناً، وربما غالبا، ما يغيب الوجه الموضوعي لجانوس ولا يبقى في مخيلتنا سوى الوجه المنحاز. عندما يعم ذلك تلجأ مجتمعاتنا الى التقوقع حول ذاتها حرصاُ منها على دينها وثقافتها. وهنا يقع مثقفونا في حبائل الأصولية. تصير محافظة التفكير مزاجية الدين. يصيبها رهاب التجديد، وعندها ينطبق عليها لقب المجتمعات التقليدية.
ما يغيب عن مثقفينا ناقدي الاستشراق، وبعضهم شرس الموقف، أن فارق القوة هو ما يقرر سيطرة الاستشراق لا مقارعة الحجة بالحجة. فارق القوة ينتج أقوياء وضعفاء. ما لا يدركه أصحابنا الناقدون للاستشراق أن محاججة الأقوياء لا تجدي لأنهم سوف يستمرون في تقديم الدراسات التي تفيد مواقعهم. لن نستطيع تنحية الاستشراق جانباً إلا بمعالجة أسباب الضعف عندنا، والاتجاه نحو هذه الأسباب والأخذ بها كي تصبح حججنا أقوى. الحجة قوية بصاحبها القوي.
ألا بلغت أنظارنا ندرة مراكز الأبحاث وأوعية التفكير، وأن أفضل الكتب التراثية تحقيقاً هي الكتب التي حققها أو أشرف عليها مستشرقون، وأن الجامعات لدينا تتراجع فيها النوعية تحت عبء الكمية، وأن من بين أفضل الجامعات لدينا تلك التي أسسها وما يزال يديرها أوروبيون وأميركيون، وأن أفضل أساتذتنا هم على الأغلب الذين يدرّسون في الخارج أو في جامعات يشرف عليها غربيون، وأن أفضل تلامذتنا هم الذين يدرسون في الخارج، وأن أفضل دور النشر هي التي تمثّل شركات في الخارج، وأن جميع من نالوا جائزة نوبل إلا واحداً، هم أساتذة في الخارج!
تلفت الانتباه سلسلة كتب تراثية نشرها مركز دراسات الوحدة العربية، وأشرف على نشرها وحققها الدكتور رشدي راشد، وهو أستاذ في السوربون. هي كتب تراثية في تاريخ الرياضيات العربية. المؤلم أنني لم أستطع قراءة معظمها لأنها بالعربية، وأنا كنت أتقن الرياضيات عندما درست الهندسة الميكانيكية في الولايات المتحدة الأميركية. وأظن أنني في الوقت عينه أتقن اللغة العربية. يبدو أن تراثنا في الرياضيات والعلوم الفيزيائية، حتى القرن السادس عشر لا يقل أهمية، بل ربما فاق أهمية ما صدر في الشعر والنثر والفقه والفلسفة. كان من أوائل ما ترجمه الأوروبيون عن العربية بداية من القرن الحادي عشر ميلادي هي كتب الرياضيات والعلوم والفلسفة. ازدهرت عندهم أهمية كتب التاريخ والفقه ومختلف فروع الايديولوجيا بداية من أواخر القرن الثامن عشر، وبلغ أمرها القمة في القرن التاسع عشر مع ترسيخ الامبريالية. يبدو أننا نجهل تاريخنا أكثر مما نعرفه. والجهل باقٍ في مجتمعات مغلقة متقوقعة حول نفسها.
تنهض الشعوب بالعمل والإنتاج. يزداد العمل إنتاجية مع المعرفة. تزداد المعرفة عمقاً مع انتشارها. لا ندري الى أي حد ساهمت في ذلك المطبعة الحديثة التي اخترعت في أواخر الربع الثالث من القرن الخامس عشر. ازدادت الكتب (والمعرفة) انتشاراً مما أدى الى ثورة دينية بعد نصف قرن من اكتشاف المطبعة. منعت الدولة العثمانية ثم الإيرانية المطبعة حينذاك لأسباب تعود الى فتاوي فقهية. بقيت مجتمعاتنا على اقتصاد الكفاف الذي لا ينتج عنه إلا مجتمع مغلق. تفاقم فارق القوة بعد ثورة علمية تأسست على انتشار المعرفة بسبب انخفاض أسعار الكتب والمنشورات المطبوعة. تاريخ الرأسمالية بعد ذلك معروف وصولاً الى إمبريالية القرن التاسع عشر. النضال الذي أدى الى تحرر شعوبنا من الاستعمار (أو الامبريالية) أدى الى تسلّط طغاة أعادوا علينا بنى المجتمع المغلق خوفا من المؤامرات الخارجية بما في ذلك الغزو الثقافي. لا يفيدنا في ذلك نقد الاستشراق ولو كانت الحجج صحيحة. ردم فارق القوة يبدأ من أنفسنا، مما في داخل ذواتنا التي تعفنت بسبب الاستنقاع والجمود اللذين نلوم الآخرين عليهما.
لم يكن ممكنا وجود فارق القوة بين طرفي الامبريالية، المسيطِرْ والمسيطَرْ عليه لو لم تكن عوامل الضعف قد انوجدت عند من سُيْطر عليه. إن نقد علاقة اللاتكافؤ هذه توجب التصدي لفهم طرفي العلاقة. هي بنية ثابتة بل هي علاقة متغيرة يمكن أن تنقلب لغير صالح القوى المتفوقة. عند ذاك يمكن أن نكتب استغراب غير الاستشراق السائد وعكسه. نتمنى أن نكون أكثر عدلاً من هذا الاستشراق وأن يكون انحيازنا للغير كما هو لشعوبنا. إذا كنا ننحاز لشعوبنا الآن، فإن علينا أن ننحاز في المستقبل لكل من ظلمه الدهر، وهو هنا الامبريالية. الحديث يشبه ما في الاقتصاد السياسي. نتحدث كثيراً عن أزمة الرأسمالية، دون ذكر نجاحاتها في حل مشاكلها على حساب الشعوب الخاضعة لها. وحين نكتب تاريخ الرأسمالية فإننا في الحقيقة نكتب تاريخ الحكام والطبقات العليا. قليلاً ما تصدر كتابات عن الفقراء وطبقاتهم وأزماتهم. أزمة الرأسمالية ليست أزمة الطبقة العليا وحسب، هي أزمة الطبقات الدنيا، ذلك أن الطرفين يعيشان في علاقة واحدة، وما كان يمكن أن توجد ثروات الطبقات العليا، وتتزايد الى نسب خيالية لولا فقر الطبقات الدنيا التي تشكّل معظم البشرية. الثروات الناشئة من الربح والريع والفائدة، هي ما يقتطع، وفي معظم الأحيان يُسلب، من القيمة التي ينتجها الفقراء. هي الوجه الآخر للأجور. فائض القوة في المجال الثقافي هو فائض القيمة في المجال الاقتصادي.