افتراق السلطة والشعب: ثقافتان وخطابان
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
كما أن في الدول الديمقراطية يمين ويسار، لكل منهما خطاب، ففي بلدان الاستبداد خطابان. لكل منهما جمهرة من المثقفين. ومن الطبيعي أن يكون خطاب السلطة هو الأكثر علانية، وتابعوها هم الأكثرية العددية، بينما المثقفون المعارضون للسلطة غالباً من يكونون في عزلة أو في السجن أو في المنفى.
تستخدم السلطة رقابة الأجهزة الأمنية. وتزودها الرقابة بمسطرة يقاس بها ما يلفظ. ويقيَّم أصحاب اللفظ على أساسه. ويتلقون العقاب أو المكافأة تبعاً لذلك. لا بدّ أن تدعي السلطة حماية الوطن في وجه المؤامرات الخارجية. فهي تحتاج للجيش للدفاع عن الحدود، وللحرس الجمهوري لحماية الرئيس، وللحرس الثوري لحماية النظام، بغض النظر إذا شكّل كل ذلك دولة داخل الدولة، أو على العموم، استقلالية ضمن الدولة، وموازنة خاصة منفصلة عن الدولة.
تعتبر السلطة أن هناك خطراً خارجياً، والخطر دائم وأبدي. مستمر مع بقاء السلطة. أو هو ضروري لبقاء السلطة.
في غالب الأحيان يستدعي وجود السلطة قضية كبرى، تعتبر السلطة أن وجودها مكرّس لها. قضية فلسطين مثلا. ولو لم توجد لوجد أمراً آخر للتذرّع به، مثل الخلاف مع دولة مجاورة، أو وجود أقلية ناشطة في بلد مجاور ولها امتدادات في بلد السلطة، أو خلاف على مياه نهر يجري في أكثر من دولة، أو وجود مواد أولية، كالنفط والغاز في حقول بحرية أو برية، يستحسن أن يطول التفاوض بشأنها، من أجل إبقاء الأجواء ساخنة مع إمكانية تطورها لحرب.
في كل الأحوال هناك الامبريالية. بغض النظر عن معرفة أهل السلطة بآلية عمل القوى الامبريالية، فإن هذه تصنّف الى ما هو صديق وما هو عدو. الصديق لا يحتل ولا يمارس أعمال الاحتلال. العدو هو من يتعدى على السيادة والاستقلال. السيادة مسألة نسبية لا تتعلّق بسيادة المجتمع على نفسه، بل ببقاء السلطة حتى ولو كانت قراراتها مستلبة. وهي في الأساس تستلب ما للمجتمع من قرارات. في الاستبداد، هي سيادة السلطة على المجتمع.
أهل السلطة لا يتحدثون عن المجتمع بل عن الشعب، ويعتبرونه مقولة. والمقولة تحتل فيها ثنائية الشعب والسلطة مكاناً أساسياً. يتحدثون أحيانا عن المجتمع والدولة، لكن بمعنى وحدانية المجتمع، وتجسدها في مقولة الشعب. وبمعنى حلول الدولة في السلطة. المجتمع متعدد وهذا ما لا يحبه أهل السلطة. والشعب واحد خاصة إذا كان في قبضة السلطة. عقل بسيط مسطّح. راحة العقل تستبعد تعقيدات البحث في المجتمع، وتعدديته، وتعدد الهويات، وأمر السياسة والنقاش والحوار والسؤال والشك.
والامبريالية لا بدّ من مواجهتها على جميع الأصعدة السياسية والثقافية، وخاصة أنها تدعم إسرائيل. يجب على المجتمع أن يكون على أهبة تامة، وجهوزية، ويقظة للمواجهة ولالتقاط كل ما يمس بوحدة الشعب أو كرامة الأمة. حالة تعبئة دائمة سياسية وثقافية لا تضاهيها إلا حالة الطوارئ. حالة مستمرة من الاستثارة يحيث لا تعود حالة الطوارئ المستمرة منذ الاستقلال ذات أهمية. مواجهة الاستعمار ذات أولوية أولى، وعلى الشعب أن يكون تام الجهوزية. وعلى كل فرد أن يتدرّب على القتال. فيؤدي خدمة عسكرية اجبارية لمدة طويلة. أبناء الأغنياء يدفعون البدل. فالشعب من الفقراء الذين يجب أن يكونوا فقراء. هم الذين يقاتلون إذا وقع المحظور وحدثت الحرب. الطغاة جبناء. غالباً ما بتلافون الحرب رغم التحريض عليها، إلا إذا كانت سلطتهم الشخصية مهددة. تهديد الوطن يمكن أن تعقد صفقة بشأنه.
قضايا المواجهة يجب أن تكون كبرى، من امبريالية الى مقاومة، الى غزو ثقافي، لكي تتناسب الأحكام، التي تكون عادة جائرة وظالمة، ضد من تسوّل له نفسه. لكي تنصرف الأعين والبصائر عن الأحوال اليومية البائسة. إفراغ عقل الشعب، أو هكذا يزعمون، مهمة أساسية. الفاشية القومية تستوجب ذلك.
قضايا الناس، الذين يشكلون المجتمع، أكثر تواضعاً كما يبدو، لكنها أكثر أهمية. لخصتها ثورة 2011 بما يلي: “حرية، عيش، عدالة اجتماعية”. أنظمة الاستقلال والتحرر الوطني تضمن حرية المجتمع، ولو نسبيا أو نظرياً، ولا تضمن الحرية داخل المجتمع. هي بالأحرى، ضد الحرية في المجتمع. جميعها تمارس القمع والتنكيل بالرأي الحر وأصحابه. وتسعى لفرض آراء سادتها وسرديات أنظمتها. بالحرية، الفردية خاصة، يسترد البشري إنسانيته. لذلك، فهي مطلب الناس الأساسي. وجودها أو عدمه قضية وجود. هي من ضرورات الوجود. الناس يرونها بمثابة الخبز وبقية الغذاء. المجتمع الحر مجتمع مفتوح تعج فيه الأفكار، ويشتد النقاش، ويستعر الخلاف. كل ذلك بما يوقد شعلة العقل والسؤال والشك.
الحرية بلا شك غائبة عن خطاب السلطة. التحرر الوطني لديها يعني الاستقلال وحسب. ويلعب الطاغية دور الاستعمار أو الامبريالية في احتلال غير مباشر، واستعباد مباشر. الحرية نقيض العبودية. الحرية خطاب الناس والعبودية خطاب السلطة.
تعبير “عيش” يعني الخبز، ويتضمن بقية الغذاء. الفقر هو في بعضه عجز عن توفير الخبز أو العيش الكريم لمن يحتاجه. تقصّر أنظمة الاستبداد في ذلك وتنتقده. إفقار الناس جرى من سياساتها، كما كان في سياسات الاستعمار، أو الانتداب، قبل التحرر الوطني. استمرار الإفقار في عهد الاستقلال، تعبير عن وحدة الرؤيا نحو المجتمع. فالاستقلال والتحرر الوطني في ظل الاستبداد تطبيق لسياسة الاستعمار. فيه إنهاك للمجتمع، وشل قواه، وخوار عزمه. وذلك قابع في أساس الهزيمة التي كرستها أنظمة التحرر الوطني والشعارات الكبرى المفرغة من قضايا الناس وحاجاتهم. يعتبر مثقفو السلطة أن الاقتصاد مسألة جانبية، فيركزون جهدهم، وعقلهم، ووعيهم، على القضايا السياسية دون إدراك أن الاقتصاد هو جوهر السياسة. يعزلون السياسة عن الاقتصاد. الاقتصاد دون السياسة مبتذل، والسياسة دون الاقتصاد أكثر ابتذالاً. وخلو خطاب المثقفين من التركيز على الاقتصاد لجعله جوهر السياسة هو ما تريده السلطة. الناس يريدون اقتصاداً سياسياً يعني فيما يعنيه، العمل والإنتاج. ويعرفون أن ذلك قاعدة للحرية. ويطالبون بذلك. تجاهل هذ الأمر انحياز لسياسة السلطة. المسألة ليست شكلية بل تتعلّق بالوجود وإنسانية هذا الوجود في وطننا العربي. الإفقار المتعمّد يشل نهوض المجتمع بما فيه التوهج الفكري والثقافي عامة. الإفقار، وهو متعمّد، يدفع الى غير النهوض. الى استنقاع ثقافي تنمو فيه طفيليات الأصولية والمزاج الديني المغلق. ومن غير الممكن الاستنتاج أن انتشار المزاج الديني، لا النهوض الثقافي وتفجر الوعي، إلا حصيلة سياسات أنظمة الاستبداد ومثقفي السلطة. المحزن أن خفوت الوعي الاجتماعي في عصر الاستقلال أشد وأدهى مما كان قبله. ليست الأمة مجرد تصوّر بل هي المجتمع في حالته الراهنة. ومن هنا، لهذه الأسباب، يكرهون تعبير المجتمع ويفضلون تعبير الشعب. المجتمع يفترض أنه متعدد والشعب مقولة توحّد.
أما مطلب العدالة الاجتماعية، ففيه رفض لواقع فاقع الظهور، من فجوة في المداخيل بين أهل السلطة وعموم الناس، وهوة سحيقة بين الناس ونخب السلطة، ناتجة عن الفروق الهائلة في الثروات. إن تجزئة الأمة ليست مسألة حدود بين أقطار وحسب، بل هي الفجوة في المداخيل، والهوة في الثروات داخل كل بلد عربي، مما أصبح مصدراً لحروب أهلية تمولها بالمال والسلاح الثورة المضادة.
صرنا مجتمعات فاقدة الكرامة، غارقة في الهزيمة، عاجزة عن الصمود، بسبب انعدام الحرية لكل فرد منا، والفقر الذي يجتاحنا، وانعدام العدالة الاجتماعية الذي يجعل الدونية بأكثرية الناس.
يقودنا ذلك الى رؤية أن لدينا ثقافتين في كل مجتمع عربي، الى جانب التعددية الإثنية والطائفية، وهما ثقافة السلطة، وثقافة الناس. ثورة 2011 العربية أدركت ذلك، وعبرت عنه بشعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، وشعار “حرية، عيش كرامة أو عدالة اجتماعية”. الثورة المضادة رفضت ذلك. نشرت شعارات ترمي الى تأبيد الحالة الراهنة. خطاب “المؤتمر القومي العربي”، و”المؤتمر القومي الإسلامي” هو خطاب السلطة، بغض النظر عن النوايا الطيبة عند المشاركيين فيهما. المسألة هي في الوعي. سواء أدركوا أم لم يدركوا، فالأمر سيان.
خطاب السلطة تعبير عن ثقافة مفرغة من قضايا الناس. خطاب المجتمع هو تعبير عن الوجود وحاجات هذا الوجود البشري. بين ثقافة المقولات وثقافة الوجود نختار الثانية. هم اختاروا الأولى. لا اعتراض على ثقافة الشعارات، حتى ولو كانت مفرغة، سوى أن المجتمع فاقد الحرية والخبز والكرامة. هو شعب منهك، وغير قادر على الخروج من قاع الهزيمة.
لا تتعلّق المسألة بالتشكيك بنوايا أعضاء المؤتمرين. لكن طريق جهنم مزروعة بالنوايا الطيبة.