المصارف اللبنانية وخيانتها لنفسها ولمجتمعها
منذ أسابيع يتكرر على محطة تلفزيونية إعلان موضوع لجمعية المصارف، فحواه أن المصارف ضرورية للاقتصاد اللبناني. أخطر ما في الإعلان تهديد بأن زوال المصارف، أو انهيارها، فيه زوال للبنان. ما أهين اللبنانيون قدر ما تقصّد الإعلان إهانتهم. وقد تجاوزت المصارف حدود التهذيب بفظاظة وقحة واحتقار للمجتمع بأسلوب غير مسبوق.
المصارف جزء من قطاع الخدمات، الى جانب قطاعي الصناعة والزراعة. لكنها لم تَعُدْ تخدم الناس. صار الناس خدماً لها. تحولت بفعل ارتباطاتها بالسياسة وانقيادها الكامل للطبقة واستغلالها لها من خدمة الى تسيّد. صار العاملون الكبار في المصارف سادة المجتمع، لا بفضل ما يقدمون له من خدمات بل بفضل ما يقدمه هؤلاء للطبقة السياسية من خدمات. وهي بمعظمها عن طريق النصب والسلب والاحتيال. الطبقة السياسية توفر للمصارف الحماية المالية والقانونية، والمصارف توفر للطبقة السياسية التمويل. لذلك شرّعت الطبقة السياسية للمصارف السرية المصرفية والمعروف أن التخلي عن العلانية له ما له من صفات الاستبداد. المصرف مرفق عام. صحيح أن الملكية خاصة، لكن المودع حالما يضع ماله في المصرف، يتخلى عن الخصوصية. وتتحوّل المعلومات عنه للعموم. لكن ما يحجب عن اللبنانين معرفته مفتوح للنظام العالمي الامبراطوري بموجب وثيقة فرضت على كل مودع، وقّعها في لبنان لا حسب القوانين اللبنانية بل الأميركية.
من ناحية أخرى، السياسة الجدية هي ما يكون في إدارة المجتمع، أي خدمته، لا التسيّد عليه. سياسة التسيّد هي فعلاً تحوّل الى التحكّم والاستبداد، وإمتلاك القوة والسيطرة على المجتمع من أجل نهبه، وسلبه، واقتطاع المدخرات، وتكديسها. ولا مكان يودعونها إلا المصارف، لتمكث فيها أو تهرّب الى الخارج، الى أماكن شرعية أو ملاذات للأموال غير الشرعية، خارج الإطار العالمي الرسمي. وهي ملاذات ضرورية للرأسمال حول العالم. أتباع القوانين حول العالم، خاصة في الدول الأكثر تقدماً، يحتاجون الى ملاذات غير شرعية وغير قانونية للقيام بأعمال غير قانونية، مثل التهريب، وتبييض العملة، والاتجار بالبشر، وتمويل الإرهاب، والحروب الأهلية، والانقلابات على الصالحين من حكام البلدان الأقل تقدماً. الشرعية الرأسمالية في أمكنة ما من العالم تحتاج الى أمكنة أخرى تكون مرتعاً لغير الشرعية والخروج على القوانين؛ فاللاشرعية والخروج على القانون جزء أساسي من بقاء الرأسمالية، كما الديمقراطية الغربية تحتاج الى الديكتاتورية في غير بلدان، بالأحرى في بلدان التحرر الوطني، التي أحرزت الاستقلال دون أن تتحرر مجتمعاتها. تحررت كأوطان ولم تتحرر كمجتمعات. تحرر بالشكل مضمونه استبداد الطبقات الحاكمة المحلية بعد الاستقلال.
صادرت المصارف اللبنانية أموال الناس، ومنعتهم من الوصول إليها (سوى النزر اليسير). فالنظام المصرفي اللبناني هو بكل بساطة جزء لا يتجزّأ من الجانب اللاقانوني في النظام الرأسمالي العالمي.
ساهم النظام المصرفي مع الطبقة السياسية، والأرجح أنه عدة الشغل عندها، في صيرورة لبنان دولة فاشلة. فهو يخالف القانون والدستور بمصادرة أموال الناس، مثلما يستعصي أركان الطبقة السياسية على القضاء باسم الحصانة. وأذا كان حزب الله يُتهم بأنه دولة ضمن دولة، وهناك اختلافات بين اللبنانين حول ذلك، ويُتهم أيضاً بأنه قابض على قرار الحرب والسلم، وهناك اختلافات بين اللبنانيين على ذلك أيضاً، فإن القطاع المصرفي، بما فيه مصرف لبنان، يشن حرباً على اللبنانيين، خاصة الطبقات الوسطى والدنيا، من أجل إفقارهم، ومن أجل شل قدرة المجتمع اللبناني على البقاء والاستمرار. ذلك أيضاً مخالف للدستور وللقوانين اللبنانية، بل للأعراف الإنسانية. هي حرب إبادة يشنها قطاع المصارف ضد المجتمع اللبناني.
ربما يدرك حزب الله، أو لا يدرك، أن المجتمع القادر على المقاومة هو مجتمع الحرية والكرامة، الذي هو على درجة من التماسك الذي يمنحه مرونة تجعله قادراً على تلقي الصدمات وصدها، وأن سياسة إفقار اللبنانيين وإذلالهم برنامج يسمح بالاستفراد بحزب الله ومقاومته. فلا يجب أن يعتقد اللبنانيون، وخاصة حزب الله، أن السياسات المالية الجائرة والمخالفة للدستور والقانون لا تمسهم. حتى لو كان عيشهم ضمن مجتمع منغلق على نفسه. فإن آثار هذه السياسات سوف تطال قواعدهم بشكل أو بآخر. لا يستطيع أي فريق طائفي في لبنان أن يعزل نفسه عن التطورات في الأجزاء الأخرى. العيش سوية، بل إرادة العيش سوية، هو الشرط الوحيد الكافي والضروري لبقاء لبنان. قول جمعية المصارف هو عكس ذلك. وتعبير محو لبنان هو أولاً هراء. ثانياً، استخفاف بالمجتمع اللبناني وذكاء أهله. غياب إرادة العيش سوية وليس غياب المصارف هو ما بشكل خطراً على الكيان اللبناني.
منذ بداية أزمة المصارف، اختارت هذه البقاء على حساب الشعب اللبناني وايداعاته. بين أن تفلس المصارف وبين أن يفلس الشعب اللبناني، اختارت المصارف أن يفلس المجتمع؛ ولو كانت المصارف جدية في غيرتها على لبنان، لاستخدم أصحابها أموالهم الخاصة لدعم مصارفهم، أو على الأقل لرفع مساهمتهم في المصارف، كما تُملي قواعد مؤتمر بازل الأخيرة وما قبلها. وهذا ما لم يفعلوه. لا ضير للبنان إذا خسرت المصارف، وحتى إذا أفلست. سيتأسس غيرها، وتحل مصارف جديدة مكانها، كما نشهد على العموم غياب طبقات وحلول أخرى مكانها. على كل حال ألاعيب المصارف المالية أدت الى محو خسائرها وظهور أرباح في ميزانياتها. لم تخسر المصارف في هذه الأزمة بل ربحت، وكل ذلك نتيجة التلاعب بأموال اللبنانيين المودعة لديهم.
تنكر المصارف أن إيداعات الناس دين عليها، وأن من لا يرد الأمانة لصاحبها يستحق العقاب. لقد حنثت المصارف بوعودها، إذ صادرت الإيداعات وشلّحت أصحابها، وسلخت عنهم مدخراتهم، وتاجرت بها لدى المصرف المركزي وغيره لتكديس الثروات في صناديقها. معارضتها لرفع السرية المصرفية ليست للحفاظ على خصوصيات المودعين، بل للحفاظ على خصوصيات المصارف وجرائمها المرتكبة. شيّدوا حول أنفسهم جدار فصل مالي-قانوني لا يختلف عن جدار الفصل العنصري في إسرائيل وغيرها. من قال أن الطبقات العليا لا تمارس سياسات عنصرية تجاه شعبها؟ يعتبرون أنفسهم ذوي الدم الأزرق الذي يتميزون به عن بقية الناس الذين يستباح دمهم الأحمر، والذين يُعاملون باحتقار، لا فرق بينه وبين معاملة البيض للسود في المجتمعات العنصرية. عنصرية المال وعنصرية لون البشرة وجهان لعملة واحدة.
إذا كان بعض اللبنانيين يخشون وجود النازحين السوريين والفلسطينيين على أساس أن ذلك سوف يحدث تغييراً ديموغرافياً في لبنان، فماذا عن التغيير الديمغرافي الذي تتسبب به المصارف؟ ليس الأمر وحده هو تغيير نسيج الطبقة الوسطى ونشوء جماعات جديدة من “أغنياء الحرب” (حرب الإبادة على اللبنانيين). فماذا عن هجرة اللبنانيين بكثافة الى الخارج، خاصة ذوي المهارات؟ إفراغ لبنان من شعبه لا يقل فداحة عن كون شعب آخر يحل مكانه.
إذا كانت مهمة فريق السلطة إضعاف الدولة وتحويلها الى دولة مارقة، فإن مهمة المصارف هي إنهاك المجتمع، بإفقاره وإذلاله، وتحويله الى مجتمع مارق. في الحالتين ضعف وتمزّق وعجز مفتعل وسلب الإرادة. سلسلة من الأزمات المفتعلة، وجميعها يتعلّق بالخبز والوقود والدواء ولا سيطرة على الحدود. تهريب وتبييض عملة على أشدهما، وفي الوقت نفسه تُشترى ودائع كل شيك بحوالي 15% من قيمته، بما معناه تكتب شيكاً بقيمة مئة ألف دولار، وتقبض مقابله أقل بـ15% مما هو مسجّل عليه. مصادرة بحجز الودائع، ثم سرقة بالتشليح عن طريق شراء الوادائع بالنذر اليسير من قيمتها. تقرر المصارف والسماسرة اللذين حولها كم تستطيع أن تستخرج من مالك، الذي هو بالنسبة لمعظم المودعين الذين لم تكن لهم واسطة لإخراج أموالهم من لبنان، مدخرات تسمى “جنى العمر”. يضاف الى ذلك ارتفاع هائل في الأسعار، أسعار المواد الضرورية للعيش. بالطبع الطبقة العليا لا تتأثر بالأمر. هناك من الأغنياء الجدد وبعض القادمين للصيف من المغتربات، من يملأ مقاعد المطاعم والملاهي؛ ومحطات تلفزيونية تهلل وتطبل لهناء العيش في لبنان وجماله الطبيعي. تزدهر ايديولوجيا لبنان الذي في المخيلة، والذي لم يتحقق في أي زمن؛ من ناحية أخرى، حقد على ما تحقق بعد الحرب الأهلية في التسعينات من ازدهار وزهو. الفريق نفسه، سواء كان خارجياً أو داخلياً، يدير النوعين من الايديولوجيا وثقافة الحقد على لبنان الحقيقي. ولبنان الراهن بشعبه الخاضع لشتى أنواع السلب والتشليح والمهانة والإخضاع. فكأن الثورة المضادة تعاقب اللبنانيين على ما اقترفوه في ثورة 17 تشرين.
ما فعلته المصارف يتجاوز مهمتها الأساسية، وهي ودائع تتلقاها على مدى غير محدود، ثم إقراض من يلزمه المال. مشكلة المصارف الأساسية أن ما تقرضه محدود بأجل، وأن الإيداعات غير محدودة الأجل. قروض البنوك للغير تستوفى بآجال محدودة في عقود، بينما إيداعات الناس يمكن أن تُستوفى غب الطلب. هذا التناقض هو من طبيعة كل مصرف، وهو في النهاية مغامرة تتحمل نتائجها المصارف. إذا حصلت أزمة أو تدافع على المصرف، لا يتحمل نتائجها المودعون. لكن أصحاب المصارف يريدون الأمر دون مخاطرة.
ليست المصارف في أزمة بل المودعون في أزمة. المصارف تعاني بما هو في طبيعة عملهم، وكل رأسمالي يمكن أن يربح أو يخسر، يستمر أو يفلس. المواطنون هم الذين أجبروا على الإفلاس دون وجه حق سوى أنه ليس لديهم مكان آخر لإيداع مدخراتهم كي تكون جاهزة عند السحب. جريمة المصارف هي اعتبار نفسها وكأن لديها حصانة. فهي بنظر أصحابها يجب أن لا تفلس، ليس بسبب جشع أصحابها بل لأن لبنان دونها يزول. ما هذه المهمة المصرفية التي يتعلق مصير لبنان بها؟ لا أحد يقر بأن يكون البلد بقاؤه مرهونا بذوي الكروش الدسمة التي لا تشبع. الإيداعات هي بمثابة سندات أمانة، وعلى المصارف أن تسدد أو تعلن إفلاسها. ويذهب أصحابها ومدراؤها الى السجن.
لا يرتبط مصير لبنان إلا بنفسه، وبإرادة أبنائه على العيش سوية. وكل ما عدا ذلك من مصارف وأحزاب ومقاومات هي في خدمة الناس. لقد فشلت المصارف اللبنانية في تأدية واجبها وهو خدمة الناس، فوجب تسريحها من العمل، كما فشلت الطبقة السياسية في إدارة المجتمع، فوجب تسريحها من العمل. ليس لبنان من أجل المصارف بل المصارف من أجل لبنان.