النظام العالمي: امبريالية جديدة
علاقات غير ندية بين الدول
تنتظم العلاقات الدولية في نظام عالمي مركزه الولايات المتحدة الأميركية، التي منها تحكم الرأسمالية النيوليبرالية البشرية. نظام الجباية فيه يعتمد على الدولار الذي تحميه القوة العسكرية الأميركية. تنتشر الجيوش الأميركية حول العالم، ولها سبع قيادات آمرة. الدولار هو العملة التي تنتهي إليها مدخرات مجتمعات الدول؛ والولايات المتحدة تطبع ما شاءت من كميات العملة الورقية. تحكم الولايات المتحدة العالم. يخضع لها ما يسمى بالقانون الدولي، وهي لا تخضع له.
“مدينة على جبل”، كما قال زعيم أول سفينة مهاجرين الى القارة الأميركية، خلال الربع الثاني من القرن السابع عشر. كل ما يجري على سطح الكرة الأرضية يتعلّق بما يُسمى المصلحة الوطنية الأميركية، كما كان يقول جيمي كارتر، وبعد ذلك ايديولوجيا النيوليبرالية التي تقضي بإضعاف الدولة في كل دول العالم، ما عدا الولايات المتحدة، التي تتمتّع بدولة قوية ذات قوة عسكرية ومالية حول العالم كله. نظام سيطرة يعتمد النيوليبرالية التي تُفْرض على دول العالم الأخرى من خلال صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة الحرة، والبنك الدولي. تصدير النيوليبرالية كأيديولوجيا النظام العالمي، يضمن تدفق الرساميل الى الولايات المتحدة، والحرص على تدني الأجور في البلدان الأخرى عن طريق الديكتاتورية العسكرية، ومنع النقابات العمالية من أجل منع التحرّك العمالي باتجاه اضرابات لرفع الأجور. الكل خارج أميركا يعمل لصالحها.
الجيوش حول العالم جاهزة لفرض السياسات النيوليبرالية بالقوة. يفضلون عدم التدخل المباشر بالجنود الأميركيين، كما في حرب أوكرانيا، فكان عبء القتال على الجيش الروسي ومرتزقته. حتى الآن لا نعرف ما الذي دفع الرئيس بوتين للقتال مباشرة ضد أوكرانيا بعد تجربة أفغانستان التي أدت الى سقوط الاتحاد السوفياتي. والجيوش الأميركية هي التي تقود قيادتها السياسة الجيوستراتيجية للدولة الأميركية. سلطة قادتها العسكريين تفوق سلطة السفراء الأميركيين. يبلغ عدد العاملين لدى هؤلاء القادة في مكتب واحد منهم الألف عنصر من مدنيين وعسكريين. وعندما يزور إحدى الدول يكون السفير تحت امرته. نظام عسكري في السياسة الدولية.
لا يخضع أميركي لمحاكمة خارج بلده مهما ارتكب، لذلك فإن مؤسسات حقوق الانسان التي تهدد الدول الأخرى تبقى على مسافة من الولايات المتحدة، رغم أن التمويل يأتي بعضه أو أكثره منها. الاستثنائية الأميركية مرتكز أساسي لسياسة حقوق الإنسان التي تهدد الولايات المتحدة كل دول العالم بها. كل الدول تخضع للقانون الدولي، أو ما يسمى كذلك، ولا تخضع له الولايات المتحدة.
التحليل الذي أجراه كارل ماركس على مصانع أوروبا في القرن التاسع عشر يسري على كل دول العالم بزعامة الولايات المتحدة. دول العالم تنتج بواسطة قواها الحية، وتكون الأجور حول الحد الأدنى أو دونه، ربما يكفي فقط للعيش على حد الفقر لدى شعوب العالم (البروليتاريا)، وعندما تخرج البضاعة الى السوق، تتحقق الأرباح للشركات الكبرى، وغالباً ما تكون أميركية، ولا مانع من بعض شركات محلية تتقاضى الفتات. أما الذين يعملون بأجر ويسمون البروليتاريا فهم معظم سكان العالم، ويتقاضون أجوراً متدنية تقترب من الحد الأدنى القريب من خط الفقر. ما يُسمى “تدفق الاستثمارات” الى بلد ما من البلدان التي كانت تُسمى عالماً ثالثاً هو في الحقيقة تدفق الفقر الى هذه البلدان مع تدفق للثروة باتجاه معاكس. يقيم أصحابه الذين يمتلكون الشركات الكبرى ويستلمون الأرباح في المركز الامبريالي الأميركي.
أما نظام التعليم والتربية، فهو متدرج من الأفضل في العالم الى العادي في المستوى أو دونه، لاستجلاب عقول أذكياء العالم لسد حاجات مراكز البحوث في كل الجامعات الأميركية. وهذه تمولها الدولة والشركات الكبرى. هذا الى جانب مراكز البحوث الخاصة لدى الشركات الكبرى والوسطى. نظام نموذجه الأعلى هو الإبداع التكنولوجي لا العلمي. يكفي أن يخلق (يبتدع) أحدهم سلعة جديدة، هي عبارة عن قيام واحد بتعليب جديد أو تغيير بسيط، حتى يسجّل “الاختراع”. فيصير هذا سلعة للبيع. وهذا لا يمنع حقيقة أن بعض هذه الابداعات أنتجت سلعاً ذات شركات تعم العالم الذي يستهلكها أو يقلدها.
أما التدفق الثقافي فهو يأخذ طريقاً من بلدان المركز الى الأطراف. تتدفق الثقافة من المركز الى الأطراف، فتأخذ منها الأطراف الغث والسمين. الحركات القومية والأصولية أخذت أسوأ ما في الثقافة الغربية، فكانت هذه الأحزاب إما فاشية أو ما يشبه ذلك. جميعها جعل الأولوية لمفهوم الأمة على الدولة، وكان ذلك كارثة على الوعي العام. وكان طبيعياً أن تتلقى النخب الاقتصادية الثقافة الغربية بتجاوب كامل، وإن اختلط أحياناً بانزعاج من قسوة التفوّق الغربي، خاصة عندما تتحوّل الثقافة المحلية الى فولكلور يُستذكر في المناسبات. أما النخب الثقافية فهي لم تعزل نفسها إلا عندما استبعدت نتيجة بعض التمرّد. أما عموم الناس فقد تلقوا ثقافة الغرب بموقف ايجابي عندما كان مجتمعنا في صعود، ومرارة عندما كان التراجع والهزيمة هما السمتان الغالبتان؛ يضاف الى ذلك المرارة ازاء انتهازية الغرب، خاصة الولايات المتحدة. كما حصل منها في التعاطي مع الدين مثلاً لدى تجنيد الشبان الإسلاميين في المواجهة مع السوفيات في أفغانستان، ثم التخلي عنهم واعتبار كل معارضة دينية إسلامية نوعاً من الإرهاب.
إذا كان المقصود بالعلاقات الدولية تعاملات بين دول تتساوى في الاستقلال والسيادة على أرضها، فهذا وهم. تشكّل دول العالم تراتبية، يعلو فيها الأقوى اقتصاديا وسياسياً. ويرزح الأضعف تحت ثقل السياسات الدولية التي يقررها من هو أقوى. العلاقات الدولية هرمية؛ الأعلى فيها هي الولايات المتحدة الأميركية؛ وهي الأعلى لأنها الأقوى عسكرياً، إذ تنتشر جيوشها في كل الكرة الأرضية، وما من حدث في أية منطقة، حتى لو كانت نائية لأبعد الحدود، إلا ويعتبر متعلقاً بالمصلحة القومية الأميركية، التي لها مئات بل آلاف القواعد العسكرية على اليابسة حول العالم وأساطيل متحركة في كل البحار والمحيطات، وقوات جوية تطال جميع زوايا العالم الأرضي والفضائي. لم تعد الولايات المتحدة هي الأقوى اقتصادياً، بمعنى انتاجياً، لكنها الأقوى مالياً. فالدولار عملة ورقية هي ذهب النظام العالمي، والحكومة الأميركية تقرر كمية الأوراق المطبوعة والمعتبرة عملة للتبادل. وهي في الحقيقة وسيلة لشفط ثروات العالم عبر ما يسمى سوق الأوراق المالية، وأهمها سندات الخزينة الأميركية. وإذ يتجاوز الدين الأميركي مبلغ 25 تريليون أميركي، فإن الولايات المتحدة تعيش على حساب العالم. هي الدولة العظمى الوحيدة وهناك دول عظيمى (بعضها يتدحرج الى الهاوية مثل روسيا)، وبعضها يلحس المبرد كالاتحاد الأوروبي، وبعضها يتحاشى التحرشات والمغامرات العسكرية مثل الصين. بقية العالم دول معظومة أي فاقدة العظمة بل الكرامة الوطنية، وهذه تشكل معظم العالم. خير دليل على ذلك ما يسمى “العقوبات” التي تفرضها الولايات المتحدة هنا وهناك، على الأفراد والشركات من جنسيات أخرى، وعلى الدول غير المنصاعة، حتى فيما يتعلّق بأمورها الداخلية التي يفترض أن تكون لها عليها السيادة. لا ننسى تفضيل الولايات المتحدة للتعامل مع دول يحكمها طغاة، وهم أقوياء على شعوبهم، ضعفاء أمام النظام الدولي الذي تحكمه الولايات المتحدة.
عقيدة الامبراطويرية الأميركية هي النيوليبرالية المؤسسة على إضعاف الدولة في كل مكان إلا في الولايات المتحدة. أما الخصخصة وحقوق الإنسان وغيرهما، فهي من سقط المتاع الذي يستخدم حين اللزوم. ليس المراد إهمال العلاقات بين السيد وتابعه، بل التذكير بوهم الندية. هي أشبه بالعلاقة بين الفلاح واللورد الاقطاعي الذي ليس حراً فيه إلا من يخرج من النظام. لذلك قيل “أن هواء المدينة يجعل المرء حراً”. للأسف لم تبق مدينة في العالم إلا تلك التي على جبل، كما رسم الأميركيون لأنفسهم منذ البداية (المذكورة أعلاه).
هو حقاً نظام عالمي جديد تحكمه الأوراق (العملة الورقية، الدولار ومشتقاته) والقوة العسكرية التي لولاها لكانت هذه العملة هباءً منثوراً. ليس الخطر في القوة العسكرية بل فيما تملكه الولايات المتحدة من السلاح الذي لا يملكه غيرها، والذي يستخدم في تطويره أكثر الأدمغة البشرية كفاءةً. نقطة الجذب لهذه الأدمغة هي الجامعات الأميركية ومراكز البحوث، وفي كليهما يكون تمويل البحوث عن طريق وزارة الدفاع (البنتاغون)، وبعض المؤسسات الخاصة التي ليست للربح.
يتحدث اليسار حول العالم عن ضرورة تغيير النظام الدولي أو المحلي؛ تغيير النظام أو تغيير في النظام، علماً بأن معظم البشرية العائشة في ظل هذا النظام هم ممن لا يملكون شيئاً، ولا أمل لهم في أن يحققوا شيئاً. معظم البشرية ناس مهمشون؛ والتهميش مسألة حياة أو موت. قليلاً ما يجري الحديث عن المأزق. مأزق البشرية التي أفسد نضالها ضد الامبراطورية، من أي نوع، النظام السوفياتي الذي جاء باسم الحرية والتحرر والعيش الكريم. وانتهى الى نظام بؤس تحكمه نخبة غاشمة، أشد فساداً من النخبة الأميركية، ثم سقط دون أن يأسف له أحد من الذين ادعى النطق باسمهم والعمل لهم.
تغيير نظام العالم أمر ضروري. هل هو حتمي؟ لا ندري. صرنا نأنف من الحديث عن الحتميات التاريخية أو حتى التفكير بها. نأنف من التفكير عن المستقبل لأننا لا نعرف، أو لا نريد أن نعرف الهدف. كيف نفكر بالأهداف وعلم الاجتماع الحديث عمم علينا منع التفكير في الغائبات؟
هي امبريالية من نوع جديد. نحتاج ازاءها الى تفكير من نوع جديد لإيجاد السبل والوسائل لإخراج الجحافل التي تشكل معظم البشرية، من بؤسها وفقرها المدقع وإحباطها الذي يصل بها الى شلل المقاومة للنظام. نجح النظام الدولي في نشر وعي عام، حتى لدى المهمشين، بأن كل الذين يناضلون ضده إرهابيون. ما زال الوعي العام السائد لصالح هذه الامبريالية، والقوى المعترضة تعاني شللا أو ما يشبهه. الفردية التي جاءت بها ذررت المجتمعات البشرية في عصر النيوليبرالية أو ما يسمى ما بعد الحداثة. هذا التعبير الذي ما يزال عصياً على الفهم.
فهم النظام وإدراكه مهمة اليسار الأولى، دونهما يبقى اليسار العالمي دون دليل عمل. المهمة الأولى الآن هي فهم العالم قبل تغيير نظامه. صحيح أن الفهم مستحيل دون الممارسة. لكن الممارسة دون فهم إجمالي هي خبط عشواء.