إسرائيل ومصير الوجود
إضطر نتانياهو الى تأكيد وحدة السلطة في حرب إسرائيل ضد غزة، فظهر بعد اجتماع وزارة الحرب مع زميليه المهرجين الآخرين لعقد مؤتمر صحفي، وكل منهم يرتدي كنزة سوداء لا خضراء ذات كم قصير كما يفعل زيلينسكي (وهو أيضاً يهودي كما يقال). لا بد أن في اختلاف الزي إشارة الى أن زيلينسكي يخوض حربا وهؤلاء يخوضون محرقة. تعلما أصولها من النازية، وإن اختلف الأداء.
هي ليست حرباً لأنها ليست بين دولتين. هي حرب من طرف واحد، بالأحرى حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني الذي ظنت الصهيونية في بداية أمرها، وما زالت تتمنى أن لا يكون موجودا. وهي تعمل على ذلك مستخدمة أكثر الأسلحة القتالية تقدماً والتكنولوجيا مع المستلزمات اللوجستية والإدارة والاستراتيجية التي تغدقها عليها الامبراطورية الأميركية.
بعد التركيز على وحدة الشعب، لم يقل أحد من من المهرجين الثلاثة شيئاً سوى أن إسرائيل تخوض حرباً ضد الشر الذي يتمثّل بالعدو الفلسطيني العربي. بالطبع لم يشيروا الى أنها حرب من طرف واحد كما كل حروب الاستعمار. كل مستعمر يريد السيطرة على الأرض المستعمرة وشعبها لكنه يُظهر أن ما يفعله ذا رسالة تمدينية، وهي ما سمي منذ القرن التاسع عشر “عبء الرجل الأبيض” في نقل المدنية الى الشعوب المستعمرة وتعليمهم؛ وإذا لم تخضع الشعوب المعنية، فعلى سادة الاستعمار شن حرب إبادة. وهذا ما يفعله الصهاينة في فلسطين، مع حذف المهمة التمدينية لسبب بسيط جداً هو أنهم (الصهاينة) لا يعترفون بالشعب الفلسطيني العربي، وهم ليسوا بحاجة لتمدين من يفترض أن لا يكون موجوداً. لذلك يلجأون الى منطق جورج بوش الأبن ومن كان معه في تقسيم العالم الى قطبين، الخير والشر، وعدوهم هو الشر. وحوش بشرية كما قالوا تستحق كل عقاب ينزل بها. الصهيونية بنظرهم تخوض حرب العالم ضد الشر، وهو العدو الفلسطيني العربي، والإسلام في العالم. فعلى العالم أن يدعمهم بكل شيء، إذ هم يدافعون عن الخير فيه. هو منطق صراع الثقافات مختصراً الى قطبين دون تعددية الثقافات في العالم، وفي كل منطقة، وفي كل بلد.
صراع الخير والشر قديم قدم العالم، وضعته الديانة الزرادشتية في إطار فلسفي نظري، وأسست نفسها على ذلك، وهي (أي الزرادشتية) لم تعد موجودة في إيران بعد أن كانت الديانة الرسمية لقرون عدة. من المشكوك أن يكون نتانياهو على علاقة بذلك، وهو على كل حال يفتقد الى المعرفة التاريخية، بالأحرى ينكرها وإلا لما كان، وما يزال، ينكر الحق الفلسطيني العربي في فلسطين.
تنكر الصهيونية الأخلاق والسياسة. ففيما يتعلق بالأخلاق، لا شيء مما يفعلونه في فلسطين وخارحها يتمتّع بأية صفة أخلاقية، إذ لا قيمة للإنسان عندهم، بما في ذلك اليهود. وفي السياسة، كان بإمكان اليهود أن ياتوا الى فلسطين، وأي أرض عربية، وهم فيها منذ القديم، دون إنشاء دولة لا هم لها إلا القتل والتشريد، إضافة الى إيجاد شعور عند العرب بجرح عميق لا شفاء له إلا بإزالة دولة إسرائيل؛ والعرب عامة حافظوا على اليهود طيلة تاريخهم وكانوا في ذلك مغايرين لشعوب أخرى كثيرة، خاصة الغرب الذي ما اعتاد إلا على اضطهاد اليهود، وتنظيم الحملات لقتلهم وطردهم.
إنكار التاريخ هو الوعي الذي تأسست عليه إسرائيل والذي يسيطر على شعبها، أو فلنسمه العصابات التي يتشكّل منها.
إذا أخذنا بالاعتبار أن كل الأمم ذات تاريخ موهوم أو غير موهوم، فالصهيونية تخلو من ذلك. فإن الماضي عندما يصطدم بالحاضر تكون الأولوية لهذا الأخير عند كل الأمم، أما عند الصهيونية فلا قيمة للماضي أو للحاضر. الأولوية المطلقة في أذهانهم، وفي وعيهم الجمعي، هي لما يدور في نفوسهم. إنكار الماضي والحاضر، حتى ما كان منها وهماً، لا يساهم في بناء دولة، بل يقوضها. والاتكال هو على الامبراطورية الأميركية للتعويض بل لإبقاء إسرائيل واقفة على رجليها. ليست ضعيفة، بل هي أقوى من كل العرب، والقوة تزودها بها الامبراطورية التي هي، على كل حال، تدير الحرب الراهنة، ولا تكتفي بالمعونات المالية والتسليحية. لكن ما لا تستطيع الامبراطورية تزويدهم به هو سبب الوجود. ما زالت إسرائيل دون سبب، أي دون علة موجبة لوجودها. والفراغ الفكري الذي عبّر عنه نتانياهو ورفيقيه نابع من ذلك.
الذات المنكرة للحاضر والماضي والتي لا تعترف إلا بنفسها، هي قمة النيوليبرالية وما بعد الحداثة. هي ذاتٌ لا موضوع لها إلا ما يكمن فيها. تنبعث الأخلاق والسياسة من الصراع بين الذات والموضوع، أي ما يسمى الواقع. وإسرائيل تفتقد إليهما، إذ هي لا تعترف إلا بذاتها، منكرة العالم ومن ضمنه العرب، بما فيهم فلسطين والفلسطينيين.
خواء الوعي الذي تعيشه إسرائيل أمر طبيعي يعود الى ما هي عليه وما تريد أن تكون. لا تستطيع التعويض عنه إلا بالقوة الأميركية ذات الفجاجة الهائلة. هو مجتمع تسيطر عليه التكنولوجيا في عصر النيوليبرالية؛ ينتج التكنولوجيا ويصدرها بعكس المجتمعات الإسلامية التي تسيطر عليها التكنولوجيا أيضاً، لكنها تستوردها ولا تنتجها؛ وفي الحالتين بنية ذهنية أصولية دينية تبتعد عن العمل الحديث، ونفعية أداتية لا تهتم إلا بالنتائج المباشرة لكل فكر وايديولوجيا. والحقيقة أنهما سطحيتان هنا وهناك، ففيهما الاعتماد على الرغبات المباشرة ولا تفكير فيما وراء الأشياء، وقراءة حرفية للكتاب المقدس واعتباره كتاب تاريخ. هناك فارق في التقدم لكن البنية الذهنية واحدة، إحداهما جلبت معها العنصرية من الغرب، والأخرى لا تستطيع أن تكون كذلك، لكونها هي ضحية للأخرى. ينظران للنصر والهزيمة دون الأسباب والنتائج، فالتاريخ منكر. وأحدهما يزهو بالنصر ولا يتخيّل نتائجه، وثانيهما ينظر الى الهزيمة وهو على غير استعداد للبحث في أسبابها. تعتدي الصهيونية على العرب، وتعتقد أن الأوامر إلهية. يعتدى على العرب ويعتقدون أن في الأمر ابتلاء إلهياً. النصر مصدر سخافة مجتمع إسرائيل الهش الذي لا يوجد بعد تاريخي له. والهزيمة لا بد أن تفرّخ عقولا عند العرب تخرجهم مما هم فيه لأن مجتمعاتهم منغرزة في التاريخ، ومضطرة ولو بعد حين للنظر فيما وراء ما يحدث. الفرق في الكم يحدث فروقاً في الكيف؛ وكيف العرب لن تبقى على هشاشتها أو انخلاعها.
الزهو الإسرائيلي سطحي قصير الأمد، وكأن القادة الثلاثة عبروا عن ذلك في ذلك المؤتمر الصحافي المذكور. وكأن الكنزات السوداء التي ارتدوها تشير الى المحرقة، إلا أن المحرقة ستكون هذه المرة من صنع أيديهم.
للعرب مصير يصنعونه هم. والمسألة لها تاريخ. أما إسرائيل فإن المصير يُصنع لها. القاعدة التي يستند إليها العرب ثابتة عبر التاريخ، أما الصهيونية فلا تاريخ لها ولا قاعدة تستند إليها إلا ما تشاء الامبراطورية. والحرب الأخيرة لإبادة غزة وما يتبعها من محاولات إبادة الشعب الفلسطيني بأكمله هي بإشراف وتخطيط الامبراطورية مباشرة. ألا نرى حاملات الطائرات الكبرى على شواطئنا؟ لكن الامبريالية، كما الرأسمالية، لهما نهاية وستأخذان معهما إسرائيل الى بئس المصير.