عجزنا وبلادة الوعي
بعد ثورة 2011، التي كانت ثورة عربية شاملة، شددت الأنظمة العربية القبضة على شعوبها، واحتاجت لمن يحميها من غضبها، فكان التطبيع حركة شملت عدة أقطار عربية، إضافة الى الدولتين اللتين كانتا وقعتا اتفاقات صلح. اعتبرت الدول العربية، وهماً أو غير ذلك، أن إيران خطراً عليها. فهي، أي هذه الدول، تتعرض لتهديد من الداخل والخارج ولم تعد حماية الامبراطورية الأميركية متوفرة سوى عبر إسرائيل. وقد عبر الأميركيون عن ذلك بما سمي صفقة القرن، وهي صفقة حماية الأنظمة العربية ولو عبر قضية لها في الوجدان العربي ما ليس غيرها.
كان طبيعياً أن تؤدي صفقة القرن، أو أن يكون شرطها الأول، هو إنهاء فلسطين قضية وشعباً. ما يحدث في غزة الآن هو تطبيق لذلك. تركت الأنظمة العربية غزة تعاني حرب إبادة شنتها إسرائيل. ومثل ذلك بدأ يحدث في الضفة الغربية دون أن تحرك ساكناً. وأقبلت حاملات الطائرات الامبراطورية ومدمراتها للتأكد من أن إسرائيل تنفذ ما هو مطلوب منها، ولو بوحشية كبرى؛ ويختلف الباحثون حول دور إيران التي لا بد أنها وجدت في قدوم القوة الأميركية الفائضة ما يقلقها، فكانت أذرعها على قدر من التعقّل، وإن تدخلت بحياء، أو كما يقول البعض، بما يحفظ ماء الوجه. وهناك من يعتقد أن العلاقة بين الامبراطورية وإيران ملتبسة، فهما تتبادلان الأموال (المجمدة) والتهديدات، لكن الهدوء الإيراني والعربي والإسلامي عامة أمر واضح.
سمعنا قادة إسرائيل عند بدء حرب الإبادة على غزة وقدوم الأساطيل الأميركية، يقولون أنهم سيغيرون المنطقة العربية. فهل معنى ذلك إعادة تشكيلها بحدود جديدة ومحتوى سكاني يكون ما تبقى من الفلسطينيين بعد حرب الإبادة جزءاً منه، علماً بأن الحديث عن الترانسفير قديم، والمواقف الأوروبية شبه موحدة خلف إسرائيل والولايات المتحدة. لم نشهد في السابق تكرر رحلات وزير الخارجية الأميركية الى المنطقة. هذا إضافة الى رحلات مسؤولين أميركيين آخرين. فهل يكون ذلك للإشراف المباشر على الحرب، والتأكد من أن ما يجري هو حسب ما خطط له!
طبيعي حيال ذلك أن تتراجع في الأقطار العربية الصراعات الداخلية، عدا الحروب الأهلية هنا وهناك. وتتراجع الانقسامات الداخلية بين اليمين واليسار، ويطغى على كل ذلك الاهتمام بالخارج، إذ تلاشت النضالات المطلبية، وهي تؤدي في العادة الى مواجهات بين الشعوب وحكامها. وقد أزيحت قضية فلسطين الى ما هو خارجي على ما لها من أثر في أعماق الوجدان العربي. إزاء ذلك غشيت المقاومة أو المقاومات العربية والإسلامية، ولا نجد في اللغة العربية أفضل من تعبير غشيت (من غشاوة) مطابقاً لكلمة mystified بالانجليزية! فهذه المقاومات تتشكّل من أعداد محدودة من الناس بما لا يستدعي حشد أعداد كبيرة من الناس، بل المطلوب ولائهم. فهم النبلاء الجدد بما يذكرنا بعهود الفيودالية والإقطاع حين كان الولاء للنبلاء وللملوك عبر النبلاء، وحين كان مفهوم الدولة لم يتطور بعد الى ما هو عليه حيث المواطنة في الدولة تعني المشاركة فيها، ودونها تكون الدولة مجرد سلطة.
عندما تتكلم عن الدولة في المنطقة العربية، فذلك على سبيل المجاز أو الاستعارة، إذ أن جميع الدول العربية هي مجرد سلطات، سواء للقمع وبالقمع أو بما يشبه ذلك. فهي نفوذ من الأعلى الى الأدنى، من الحاكم وحاشيته الى الجمهور، الذي يمنع قطعاً من المشاركة إلا عبر انتخابات مزورة، يظهر بنتيجتها الرقم 99%، وإذا تواضع الحاكم تكون النتيجة الانتخابية حوالي 90%، ونادراً ما تتدنى عن ذلك.
ألا يبدو غريباً فقدان نصاب الدولة في لبنان بعدم انتخاب رئيس الجمهورية، وترك مناصب أساسية فارغة من التعيين. وفي فلسطين منذ أن فصلت حماس غزة عن السلطة الفلسطينية، وفي كل منهما مقاومة إسلامية. يبدو أن عداء الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي يستأصل ضد الدولة ومعناها ومغزاها. المهم أنه بغياب الدولة تواجه إسرائيل مقاومة لا دولة أو دول. فهل جرى تقسيم عمل بين ما هو عربي يكون موالياً لإسرائيل وما هو إسلامي يكون معادياً، وأن تكون الدولة-السلطة العربية هي اللادولة، وأن تكون “المقاومة” هي اللادولة-السلطة، وأن يكون الخلط بينهما مفهومياً هو كالخلط بين الداخل والخارج! يتراكب هذا المفهوم مع ذلك، والواقع مع المؤملات، فإذا ما لدينا صور تلفزيونية عن حرب إبادة؛ والصور مذلة لكل عربي، إذ يشعر بالحزن والمهانة بينما هو لا يستطيع أن يفعل شيئاً سوى الامتلاء حقداً وكرهاً لما يجري من مجازر وحرب إبادة، ولمن هو السبب المباشر، ولمن هو مسؤول غير مباشر عما يجري.
بات الوعي العربي مشوشاً، بالأحرى ملغياً، لدرجة أن الفكر صار مبسطاً للغاية، فلا نعرف إلا أن هناك عدواً مرتكباً متوحشاً، وأن هناك ضحية هي فلسطين وشعبها، ومجتمعات عربية عاجزة لا تملك غير الوجدان، بينما هي مهمشة بالكامل، إذ تعميها حرب الإبادة عن مشاكلها الداخلية ومطالبها تجاه حكامها. تمضي الأيام ونعتاد على المأساة حتى لتكاد فلسطين تصير قضية خارجية. الواقع أن وعينا إمتلأ بالمعميات، فيكاد الخطاب بيننا ومع الآخرين يقتصر على جيو-استراتيجيات، نتحدث عنها ولا نكاد نعرف عنها شيئاً. يتكرر المشهد يومياً حتى ليكاد يبدو كأحد المسلسلات التلفزيونية الطويلة التي تكاد تطغى على مشاعرنا المتلبدة.
صارت البلادة عنواناً لمشاعرنا ووعينا، إذ لا نجد شيئاً نفعله إزاء المزابح سوى المشاهدة. حتى مظاهرات الاحتجاج يفعلها غيرنا في هذا العالم.
تغوّلت البلادة في وعينا حتى أننا صرنا نغش أنفسنا خاصة عند ما يتحدث البعض عن انتصارات. المعني بالنصر عند هؤلاء هو الصمود والتصدي أو منع العدو من تحقيق أهدافه التي لا نعرفها ولم يفصح عنها. ليس النصر مجرد إلحاق خسائر بالعدو بل كسر إرادته بإجبارها على الاستسلام أو القرار. صار النصر أيضاً مغشى، ولدينا الكثير من كلامولوجيا الانتصار وما زلنا مضطرين للتعويض عن الهزيمة بأيديولوجيا النصر. نمعن في غش أنفسنا لكن من فقد أحباءه وما يملكه لن يوافق، وكيف يوافق والدموع في عينيه ويده ممدودة من أجل المساعدات “الإنسانية”. الانتشاء بالكلامولوجيا هو شأن من لا يأبهون لشعبهم ومآسيه، لكننا ما زلنا بحاجة الى كثير من الواقعية كي يخرج الوعي من بلادته.