الانفصال والطائفية
النظام الطائفي مقيت. الأكثر مقتا هو أن يعتبر أحد أبناء طائفةٍ ما أن ما يصيب طائفته من خير يصيبه هو، وأن تسلّط طائفته تعني بالضرورة أنه أكبر شأناً، وأن المستفيدين من الطائفية ليسوا إلا قلة من الوجهاء الذين يصادرون الطائفة حكماً بفعل وجاهتهم، ويغفل أنه حتى الطائفة المسيطرة فيها من الفقراء ما ليس بالضرورة ما يقل عددهم عن غيرها، وأن الظلم اللاحق به وإن كان من طائفة مسيطرة هو صادر عن جميع هذه الطائفة.
عندما تُوْلد تُسجّل لدى طائفة ما وتفقد الخيار سلفاً. أنت في النظام الطائفي محجوز مسبقاً منذ أن تولد، فاقد الحرية منذ أن تبدأ بالتنفس. تُفرض عليك الطائفة، بالأحرى أكباشها وغيرهم، طقوسها منذ أن تولد، وتكون تربيتك على أيديهم، وإن خرجت عما يريدونه منك ستكون مارقاً، وإن كنت أكثر جهراً يتهمونك بالهرطقة. في الطائفية عبودية الوعي وخضوع تعتبره واجباً، وانصياع تبديه وأنت مقتنع أنك تفعل الصواب، حتى ولو كان ما يطلب منك غير العدل والاستقامة.
ليس صدفة أن أكباش الطوائف، ومن بينهم رجال الدين، هم من الذين أحوالهم المادية تفوق غيرهم من قطعان الطائفة. فهم يعيشون على حسابها وعلى ما يقتطعونه بالرضى أو القسر، وفي غالب الأحيان بالرضى، من عمل الطبقات الدنيا.
الطائفية وسيلة ايديولوجية، مهما كانت أصولها الدينية، لسلب الأتباع، بالأحرى القطعان (ما دمنا نتحدث عن الزعامات الأكباش)، مما هو حق لهم؛ وما يُسمى حقوق الطوائف ليس إلا حقوق سادتها وأكباشها. الأصل في كل التمايزات الاجتماعية هو الطبقة لا الطائفة، لكن الأولى (الطبقة) تنزاح طائفياً (ايديولوجيا) ليصير الاستغلال من غير قسر وإكراه، بل صادر عن رضى المستعبدين والمهمشين الذين هم، في جميع الأحوال، جمهور الطائفة وأكثريتها. تجند الطائفية الدين لذلك وتلغي الإيمان أو تهمشه، ولا يبقى من الدين إلا الطقوس والمظاهر الخارجية (خارج النفس والضمير) التي لا يصاحبها بالضرورة الإيمان. فتكون النتيجة تكاذباً ضمن الطائفة. على أفراد القطيع أن يشبهوا بعضهم ويتخلوا عن ضميرهم الفردي للانسجام مع المظهر العام على حساب الحرية التي لا تكون إلا فردية، وعلى حساب الإيمان الذي لا يكون إلا بين الفرد وخالقه، ولو كان مخالفاً للمظهر العام.
في الطائفية نزوع دائم للانفصال عن الدولة. في الحقيقة تحل الطائفة مكان الدولة، حتى ولو كان الكلامولوجيا غير ذلك. في أحسن الأحوال، تكون الطائفة وسيطاً بين الجماعة والدولة، وهذا التوسّط يلغي الدولة إلا لفيدرالية طوائف تميل دائما الى التفكك والحرب الأهلية أحياناً. الطائفية حرب أهلية متقطّعة إن لم تكن متواصلة. فترات الهدوء والاستقرار تُستغرق في التحضير للحرب الأهلية القادمة. الاستقرار الدائم لا يكون إلا عندما تسود العلاقة الدائمة، دون وساطة، بين الفرد والدولة. بها يكون الفرد مواطناً لا من الرعايا.
الأكثر مقتاً أن يعتبر أصحاب الطائفة أن لهم ثقافة واحدة، حتى ولو كان فقراؤها يعيشون ويمارسون بغير أسلوب العيش لدى طبقة الأكباش. هي حالة إنكار دائمة للثقافة المشتركة. الأدهى أن الطائفية حالة إنكار دائمة للثقافة العالمية التي قال عنها أحدهم أنها واحدة بأنغام مختلفة. تحكم الطائفة على أتباعها بالعزلة عن البشرية وأحياناً تتطوّر الى فاشية ظاهرة أو مستترة.
مسألة الثقافة شائكة. في كل منطقة وفي كل طائفة تعددية ثقافية ينكرها أصحابها. هذا الإنكار نفي للإنسانية وما تفترضه من لطف وعطفة وتعاون ومحبة. أنت مضطر بها الى إنكار الآخرين وما هم عليه. الأهم في كل ذلك هو إنكار الدولة التي لا غيرها إطار ناظم للمجتمع. إنكار الدولة وباء أصاب جميع الأقطار العربية، إذ يحكمها استبداد يلغي الدولة بمفهومها الحديث، ويضع مكانها إرادة الحاكم. وفي كل دولة عربية تقريباً جيش موازٍ لأن أهل الحل والعقد لا يثقون بالجيش الرسمي الذي يفترض أن يكون جيش الدولة الوحيد، إن وجدت الدولة. مع الجيش الموازي ينمو الاقتصاد الموازي، وهذا مرتع للفساد والسلب.
إنكار الدولة هو حال جميع الأقطار العربية، وهو في أساس عجزهم وهزائمهم. بناء الدولة الحديثة في كل بلد عربي هو المخرج الوحيد من الأزمة الملازمة لوجودنا. يتوجب إخراج مفهومي الوحدة والأمة لحين بناء الدولة الحديثة، وهي التي تختار الاندماج في الأمة والوحدة إذا شاءت وشاء أهلها. إن اعتبار الأمة وجوداً لا سعياً، وحقيقة متحققة لا هدفاً، هو ما يشل القدرات. الصراع في فلسطين وجه من وجوه إنكار الدولة؛ ومن مظاهره التعلّق بحل الدولتين الذي ترفضه إسرائيل، التي تغتصب الأرض وتسعى لتهجير، بالأحرى إبادة، كل الشعب الفلسطيني.
تتصاعد في لبنان بين الحين والآخر دعوات الانفصال لدى طائفة أو أخرى. جميعها لا تأخذ بالاعتبار الدولة وأهميتها لكل مجتمع. غياب مفهوم الدولة يهدد المجتمع، كل المجتمع، حتى ولو كان طائفة واحدة. لا نتعلّم العيش سوية إلا في إطار الدولة.