تلاشي الثقافة والمثقف
المعلومات متوفرة ومتاحة للجميع بما يفوق القدرة على استيعابها والربط فيما بينها بما يؤدي إلى “فهم” ما يجري في هذا العالم، وخاصة في منطقتنا العربية.
كلٌ منا يحمل المعلومات إما في رأسه وإما في الآلة “الذكية” التي في جيبه وغالباً ما يصير الدماغ ملحقاً بها. المعلومات التي في الخلوي تفوق ما في دماغنا بكثير. وعندما نريد تذكر شيء ما من الذي مضى بالنسبة لنا أو لغيرنا، غالباً ما نلجأ الى آلة الجيب، وهي الهاتف الخلوي والذاكرة التي يتضمنها.
،هو في الأصل هاتف للتواصل، لكن التطوّر قاد الى أن يصير خزان معلومات وصور وحكايات. الحكاية سرد لما جرى ويجري في إطار معيّن. ليس السرد مجرداً عن النوايا، فهي رؤى ومواقف تتكوّن مما يذيعه الخلوي ووسائل الإعلام الأخرى. فهل يتكوّن عند المرء رأي أو موقف غير ما يلقّنه اياه الهاتف الخلوي وملحقاته الإعلامية؟ بات لزاماً علينا ومتوجباً البحث في قدرتنا على تأسيس رأي مستقل غير ما يجري تلقينه لنا، أو خارج ما يُملى علينا.
بالطبع عند كل منا آراء مسبقة، معظمها ما نشأنا عليه، وهذه المواقف أو الآراء تشبه الغرائز فينا. لكن مع مرور الزمن هل يمكن أن يتطوّر الأمر حتى يصبح غريزة مكونة مما يذاع إلينا؟
تعلمنا أشياء كثيرة حيث نشأنا، في المنزل بحكم التربية، وفي المدرسة بحكم التلقين، وكنا قبل الخلوي نُضيف الى ذلك ما تعلمنا اياه الحياة، أو ما نضيفه من معلومات، “معرفة”، نكتسبها بالقراءة والتتبع. لم يعد الأمر كذلك بعد الخلوي، فهو يضيف إلينا ما يفوق أي مصدر آخر. ليس المراد هنا تقليل أهمية هذه الإضافات، أو نعتها بالسلبية أو الإيجابية.
ترتاح الذاكرة لوفرة المعلومات المتاحة آلياً خارج الدماغ وفي متناول اليد. ومع مرور الوقت تصاب بالكسل حتى بالنسبة لأمور ضرورية كانت تخزن قبل شيوع الذاكرة الآلية. ومع مرور الزمن يؤدي كسل الذاكرة الى كسل الدماغ وربما إلى تراجع الوعي وتراخي القدرة على التفكير، ثم ضعف الشك والإيمان بكل ما يرد على أنه اعتقاد الحقيقة.
يساهم في ذلك بدرجة لا تقل تأثراً، وربما حسماً، إعلام الاستبداد وما يُنشر عن كل رواية معتبراً أن هذه هي الحقيقة ولا غيرها. الاستبداد يفرض سردياته بقوة العنف المادي بينما الإنترنت يفعل ذلك بالقوة الناعمة ولكن النتيجة واحدة.
تتكوّن البيئة الحاضنة لكل كبش من أكباش الطوائف والأحزاب، من مثقفين وعامة على استعداد لتصديق رواية الأكباش، وهؤلاء عادة ما يتفقون على السرد أو على طمس الحقيقة. وتتكامل الأدوار. وبذلك تسود روايات الطبقات العليا، وهي على اتفاق في ما بينها والأكباش كذلك. وفي غالب الأحيان تكون الروايات الالكترونية ذات مصدر واحد.
مهمة المثقف الأولى هي المعرفة، إذ لولا امتلاكه كمّا كبيراً (نسبياً) من المعرفة لما استحق هذا الاسم. لا نستطيع تحديد هذا الكم لكننا نشعر بوجوده حولنا، إذ يسع علينا بالمعرفة التي لديه. لكنه يُبلوّر لغيره رؤية، وهذا إما أن يكون السلطة أو معارضيها. وعلى المثقف أن يكون له موقف، وما من موقف محترم إلا ما هو معادٍ للسلطة لأن كل سلطة غاشمة وغير عادلة، حتى ولو كانت تعمل، أو تظن أنها تعمل، لمصلحة الشعب.
في بلورته رؤية للناس لا يكون المثقف صادقاً إلا عندما يُعبّر عن حقائق ما يريده هؤلاء ويحتاجونه. هو ما يعيد تصفية وإظهار هذه المطالب بصيغة تفوق العامة، ويحتاجها العامة. فهو يستطيع التعبير بما لا يستطيع غيره أن يقوله لعجز في القول والخطابة. يستطيع المثقف أن يكون من وُعّاظ السلاطين (والتعبير استخدمه علي الوردي العراقي عنواناً لكتابه)، وفي ذلك يستنسخ الفرص للكسب المادي أو المعنوي أو كليهما.
المثقف المعارض للسلطة لا يكسب الدنيا وغير الدنيا، لكنه يكسب ذاته، فهو يُعبّر عن الناس في تماهيه معهم. يسهل على المثقف معارضة السلطة. ففي كل سلطة ما تؤاخذ عليه. الصعوبة هي في الموقف مع الناس أو ضدهم. وإذا قيل “ألسنة الخلق إعلام الحق”، فإن الأمر ليس كذلك دائماً. الموقف الصعب هو عندما يخالف الرأي السائد، فيضطر للقول إنه مع مصالحهم ومشاعرهم الحقيقية التي لا يعلمون حقيقتها. والحقيقة دائماً زلقة، فإنها سرعان ما تفلت من يد، أو بالأحرى دماغ. يكون المثقف الصادق حزيناً مرتبكاً مسكوناً بالهواجس عندما يرى غير ما يراه الناس.
في زمن دفق المعارف (المعلومات) الإلكترونية والإعلامية والحقائق البديلة، يسهل إظهار المثقف في غير ما هو عليه، حتى على الصعيد السلوكي والشخصي.
يبدو أن تشويه السمعة وإلصاق التهم أمر سهل، ودعّار الإنترنت على استعداد دائم لفعل ذلك، حتى لو كانوا يعلمون غير ما يظهرون. إن شركات التعقب الإلكتروني وزرع المعلومات البديلة صارت من الأعمال التجارية المربحة، وأوضاع أصحابها في تصاعد. أشهرها شركة “بيجاسوس” الإسرائيلية (لاحظ التوارد اللفظي بين بيجاسوس وتجسس). لكن الحقيقة تستحق من يدافع عنها، بل يكشفها حتى ولو كان هناك تعرّض لحملات تشويه مغرض. وفي كثير من الأحيان يكون الأمر شخصياً بادعاء النفاذ إلى خصوصيات المعني بالأمر. حتى الصورة الشخصية، الرسم للوجه وبقية أعضاء المعني يمكن إظهارها على غير حقيقتها، وهناك كثير من الحقائق الإفتراضية والسلوكيات المزورة يمكن أن تنال من المعني. في غمار وفرة المعلوماتية الهائلة، يصبح البحث عن الحقيقة كالبحث عن إبرة في كومة قش، ما يتطلّب من المعني، أي المثقف، شجاعة إضافية، يمكن أن تُودي به إلى الهذيان أو إلى خلل عقلي.
يتوجب على المثقف مواجهة الجمهور إذا كان رأيه مخالفاً، وذلك يبعث على الأسى والوحشة، ومواجهة الجيوش الالكترونية، كما يسمونها. وأحيانا يجرى التعدي عليه بالشخصي دون مناقشة وجهة نظره موضوعياً. يضاف إلى كل ذلك دسائس البلاط أو تحريفات رجال الأمن والمخابرات.
بالنسبة للمثقف الجدي ليس ما يُخيف إلا ما يضعه في موقف غير الجمهور تعلقاً بالحقيقة. في عصر ما بعد الحداثة، والحقائق الافتراضية، والمعلومات البديلة، والتشكيك بالحقيقة ذاتها، بل والهزء بها على اعتبار أنها لم تعد موضة العصر، لم يعد الغور باتجاهها مجدياً، إذ هي ذاتها مستحيلة. وهذا اتجاه فلسفي عريض واسع المدى. فعلينا رد الاعتبار لها ومواجهة أساليب التفكير المنكرة لوجودها.
لكن الشك الذي يعانيه المثقف لا يتعلق بكل ذلك، بل بالضمير الذي هو مصدر الحرية. ولا يكون المرء حراً إلا بالضمير الباحث عن الحقيقة. وهذه بالطبع غير الحقائق البديلة التي يفترضها جمهور، أو جيش الإنترنت، وهي أيضاً غير الحقائق التي يفرضها نظام الاستبداد، برغم أنها ليست أكثر من أوهام كاذبة وحسب. وقد تعلّم الاستبداد منافع الانترنت في خلق الأوهام وكأنها حقائق.
مهمة المثقف الحقيقية هي استخدام المعرفة لخدمة ما في الضمير لا غير، والقدرة على ربط المعلومات بما يوصله للحقيقة برغم صعوبة ذلك في زمن تدفق المعلومات التي تُعبّر عن حقائق بديلة، تكون في معظم الأحيان كاذبة، والعزوف عما تنشره سلطات الاستبداد، وإن كان ذلك صعباً.
ينوء المثقف تحت عبء ما يلقى على عاتقه وتزداد حيرته إذا يرى نفسه سابحاً ضد التيار ومواجهة الإغراءات. بذلك يتلاشى دور المثقف ومساهمته في الثقافة السائدة التي هي بدورها منتجة من أجل التسطيح والتعمية والتشويش.