حاضر الأمة ومستقبلها 1
بعد الحرب العالمية الأولى، وبعد خروج العثمانيين، وقبل دخول الفرنسيين الى بلاد الشام، أنشأت النخب السياسية فيها مملكة دستورية، ونصّبت فيصل الأول ملكاً. وكان الدستور أرقى من دستور الولايات المتحدة، الذي وضعوه بعد أن أخرجوا البريطانيين من بلادهم. دام الأمر عامان وأكثر بشهور، دخل بعدها الفرنسيون الى دمشق، وطبعاً مزقوا الدستور وهزموا جيش أهل الشام (الذين شملوا العراق وفلسطين وسوريا والأردن ولبنان)، ومحوا الديمقراطية، وباشروا بالانتداب الذي كان استعمارا حقيقيا وحرماناً من الديمقراطية، أو بالأحرى حرمان الناس من أن يكون لهم صوت في تقرير مستقبلهم.
نفذ الفرنسيون اتفاق سايكس-بيكو، الذي عقد خلال الحرب بين فرنسا وانجلترا وامبراطورية آل رومانوف. وكان الانجليز يضمرون تنفيذ الجزء المتعلق بهم، خاصة إعطاء فلسطين لليهود، إذ لم يكن رئيس وزراء بريطاني قبل وعد بلفور إلا مسيحيا-صهيونياً، بما في ذلك لويد جورج، الذي قاد بريطانيا عبر نهاية الحرب العالمية الأولى، ومؤتمرات السلام، والأكاذيب التي فُتن بها الشريف حسين. كان الشيخ رشيد رضا تلميذ محمد عبده، الذي بدوره كان تلميذاً لجمال الدين الأفغاني. وشارك (رضا) بوضع دستور بلاده. فهو من مواليد القلمون شمالي طرابلس.
في عام 1928، أسس حسن البنا جماعة “الأخوان المسلمين” في مصر، والتي كانت تحت حكم الإنجليز، وبمرأى منهم طبعاً. وكان تاريخهم مع الملك تبادل اغتيالات، وصولاً الى محاولة اغتيال عبد الناصر في عام 1954. وكانوا قد أسسوا “التنظيم الخاص” العسكري. وكانت عقيدتهم هي “الإسلام هو الحل”. وشعارهم هو “تطبيق الشريعة” في الدستور، وأسلوبهم في العمل هو العنف. وصولاً الى سيد قطب، الذي ترجم كتابه “معالم الطريق” السيد الخامنئي، وقدمه الى الخميني. وأعدم مؤلفه نظام عبد الناصر عام 1966.
نشبت في فلسطين عام 1936 ثورة فلسطينية وعصيانات، دامت 3 سنوات، في وجه الإنجليز، والصهيونية التي كانت مشروعهم، بغض النظر عن حق شعب فلسطين في تقرير المصير، الذي كانوا عبروا عنه في تشكيل حكومة عموم فلسطين (الدولة الواحدة)، التي أعلنها الفلسطينيون في أواخر الحرب الكبرى، وشطبها الجنرال اللنبي. رفع الصهاينة طبعاً شعار أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. فلم يكن لشعب فلسطين حق أو أمل بالوجود، وسيكون التاريخ اللاحق هو سردية إبادة هذا الشعب في سبيل تحقيق الوعد التوراتي، الذي ما كان له قيمة سوى ايديولوجيا دينية عند يهود أوروبا والعالم، خلال آلاف السنين الماضية، والذين لم يأخذونه بالاعتبار لولا أن الإنجليز، ومن بعدهم الأميركيين، توخوا أن يكون لهم أداة في هذه الأرض. وكانت الصهيونية المسيحية متجذرة أيضاً في الولايات المتحدة الأميركية.
لم يدخل في روع العرب أن أحدا سوف ينازعهم الوطن، وينتزع منهم الأرض، ولا أن يكونوا هم ضحايا إجرام غربي.
ولم يدخل في روع العرب بأن الصهيونية الإسلامية ستكون نسخة معدلة عن الصهيونية المسيحية والصهيونية اليهودية، إذ ليس لدى أية منهنّ اعتبار للشعب كناس، أو للناس كهدف بحد ذاتهم، بل كأداة لما يعتبر مقدساً. ستكون الصهيونية المسيحية أكثر قدرة على تجنيد الصهيونية اليهودية لصب جام الحقد على المجتمعات العربية. وعندما أريد للصهيونية اليهودية أن يكون لها ثأراً مما اعتبرته ظلماً تاريخياً، كان ذلك على حساب العرب وفلسطين، وما دخل في روعهم أن الأرض عربية، وأن العنصرية والأبارتيد والإرهاب من صنع الغرب، وسيكون العرب هم الذين يدفعون الثمن. فقدت اليهودية سماتها التاريخية، ولم تعد قادرة على انجاز ما اعتداته، عندما جعلت من نفسها أداة لغيرها، وارتضت أن تكون ملحقة بالغرب وصهيونته المسيحية. اعتمدت على الامبريالية واستقر بالها، إذ كان الدعم كاملاً والكراهية للعرب متأججة، وكان طبيعياً أن يقلد يهود إسرائيل وبقية الصهيونية أسيادهم في الفاشية أو النازية، التي تمارس الأمر نفسه متى انتشرت عند أي شعب دون استثناء. في كل ذلك يصير الوعي، كما الطبيعة، كما التاريخ عبئاً على أصحابه.
اتخذت الأصولية معنى جديداً إضافياً في القرن العشرين. فهي لم تعد كما كانت تتعلق بأصول الدين أو أصول الفقه، بل صارت تتعلّق بما هو سياسي. أخضع الدين للسياسة، واحتل الدين كل المجال العام والخاص. ولم يعد ممكناً الفصل بينهما، وصار الدين يملأ وعي المسلمين، بعد أن كان جزءاً ليس قليل الأهمية في ثقافتهم. انتقل الدين من كونه عنصراً ثقافيا الى صيرورته كلاً سياسياً. بزغ دين جديد ليست له علاقة بالموروث أو ما يسمى التقليدي، كما كان في ممارسة الأجداد وأسلافهم. وصارت الشريعة معتبرة هي القانون والدستور على ما في ذلك من أوهام وتناقضات، إذ صار يملأ وعي المسلمين كما تملأ الأصوليات الدينية لدى الأديان الأخرى وعي أتباعها. ولم يعد ممكناً ممارسة الدنيا دون الرجوع الى ما يتعلّق بالسماء بعد أن كان غير ذلك. والدعوات “الإصلاحية” لتجديد الخطاب الديني تصب في هذه الصهيونية عن قصد أو غير قصد.
لكن الغلبة كانت للصهيونية المسيحية وأداتها اليهودية لارتباطها بمجتمعات غربية أكثر تقدماً، وأكثر إنتاجاً، وأكثر تفوقاً. في العام 1948 تأسست دولة العدو الإسرائيلي بدعم غربي، فالحرب التي نشبت في هذا العام كانت الجيوش الإسرائيلية فيها أكثر عدداً وعدة وتفوقاً من الجيوش العربية مجتمعة. ولم تكن النتيجة مجرد هزيمة عسكرية. يهمل الكثيرون أثر ذلك على الوعي العربي الذي تخثّر وذبل، وصارت اتجاهات المقاومة بلا أفق. معظم الدول التي شاركت جيوشها في القتال كانت غير مستقلة بعد. فقد كانت ترزح تحت الاستعمار، واستقلالها شكلياً، كأن تخضع لمعاهدة تكون فيها السيادة للطرف الآخر، الذي مارس السلطة على البلد دون جيوش أو بها.
حتى بعد الاستقلال الناجز بقيت كل هذه البلدان تقريباً واقعة في إطار الهيمنة الامبريالية، وما الحديث عن علاقة تاريخية بين بلد عربي وبلد استعمره سابقاً إلا تعبيراً عن هيمنة امبريالية من نوع ما. يختلف ذلك عن القول بتبني الثقافة الغربية من أجل التقدم. هذا أمر يصدر عن إرادة ذاتية، ورؤية مستقلة للذات والعالم. العداء السياسي للغرب شيء والرفض الثقافي شيء آخر. في السياسة تسلط وهيمنة بينما الثقافة عالمية وكونية، إذ أريد لها أن تكون وسيلة للانخراط في العالم. إنكار الثقافة العالمية يحكم على صاحبه بالعزلة والتخلف، بينما الشان السياسي يتطلّب رفض الهيمنة والتسلّط لأي جهة غربية أو شرقية، أو حتى داخلية.
لكن أخطر ما أصابنا نحن العرب هو الوعي الذي تأسس على الإنكار من ناحية، وعلى تصلّب المعتقد من ناحية أخرى. الإنكار هو عندما نحسب هزائمنا المتتالية انتصارات أو انجازات على هذه الطريق. وتصلب المعتقد هو في العلاقة بين الذات والموضوع. بين ذاتنا وإنكارنا تجاه الوقائع والظروف الموضوعية. الوعي العام الذي يتأسس على هاتين القاعدتين لا يجدي. يكون وعياً متخثراً، مفككاً، مشتتاً، يفتقر الى التماسك، وربط الوسائل بالأهداف.
في المقالة التالية سيأتي الكلام عن ذلك بالتفصيل.