قضية فلسطين وتداعياتها
قضية لا كالقضايا الأخرى في العالم. شعب أزيح وهُجّر وطُرِد من أرضه، وآخر جيء به ليحل محله. الذي أزاحَ يُمثّل الامبريالية والعنصرية في العالم، والذي أُزِيحَ يُمثّل المضطهدين والمُستَغَلين والساعين من أجل التحرر والتخلّص من التبعية. القضية لا تتعلّق بالحق وحسب، بل بتركيب النظام العالمي الذي تنكّر سادته لكل ما حدّثونا به عن الحق والعدالة.
ليست قضية فلسطين قضية حق وحسب، فالحق فلسطيني عربي فيما يتعلّق بالأرض والشعب، بل هي أيضاً قضية الوعي وتشتيته، والمقاومة، والدولة، إلخ… أول ما حُرِمَ منه الشعب الفلسطيني هو الدولة، أو إمكانية نشوء الدولة، في حين أن أول ما فعله الإسرائيليون هو إعلان دولتهم التي أعقبت إنسحاب الانجليز من فلسطين، وذلك برغم التقسيم الذي قضى بحصة لإسرائيل، تجاوزتها كما تفعل إزاء كل المواثيق والاتفاقيات والقوانين، وما بقي من فلسطين صار تحت حكم الأردن في الضفة الغربية وحكم مصر في قطاع غزة.
في عام 1948 كانت بداية حرب الإبادة والتطهير العرقي التي أصابت الشعب الفلسطيني، والذي صار يسكن ما يُسمى المخيمات في الدول العربية التي هُجّر إليها. طبعاً لم تكن هجرة طوعية. لكن الفلسطينيين لم يجدوا وسيلة بديلة للنضال والتعويض عن حرمانهم من الدولة سوى حرب التحرير الشعبية التي سُميت المقاومة الفلسطينية. تدريجياً صارت المقاومة مفهوماً مستقلاً نال شبه التقديس. ما ورثه الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي عن منظمة التحرير الفلسطينية هو مفهوم المقاومة والعداء للدولة، بخاصة عندما اتجهت منظمة التحرير إلى مفهوم الدولة بعد اتفاقات أوسلو، ومصافحة البيت الأبيض بين ياسر عرفات واسحق رابين. مع الإسلاميين صار لمفهوم المقاومة معطى فوق طبيعي (ميتافيزيقية)، وصار كل عربي يقاس بمدى قربه أو بعده عن المقاومة، التي صار الوفاء لها كتلة نيابية في المجلس النيابي اللبناني. لا يكفي بنظر أصحاب هذه الرؤية أن تكون مناضلاً، بل أن تكون “مقاوماً” أو مؤيدا للمقاومة. ولم يعد مهماً أن تكون يسارياً أو يمينياً، عروبياً أم غير عروبي، الخ… بل وفياً للمقاومة أو عكس ذلك. حتى شكلت المقاومة صناعة ثقافية قائمة بذاتها ومهيمنة على الوعي لدرجة أنها قتلت أشكال الفن الأخرى، كالشعر، والأدب، وغيرهما في المناطق المسيطرة عليها. صارت أشبه بالعبادة (cult) القائمة بذاتها أو لذاتها، بما لا يحتمل النقد للفكرة وأصحابها.
كان السعي لتدمير فكرة الدولة الفلسطينية مزدوجا، إذ انفصلت غزة عن السلطة الفلسطينية على يد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عام 2006، وقبلها بسنوات كان الصهاينة قد اغتالوا اسحاق رابين الذي وقّع اتفاق أوسلو، وكان رئيس وزراء إسرائيل آنذاك.
بعدها بقي “حل الدولتين” وهماً ترفضه إسرائيل، ويتغنى به قادة العرب والعالم، والكل يعرف أن الشعار سيبقى وهماً ما دامت إسرائيل ترفضه مبدئياً وعملياً.
رافق ذلك عملية تشتيت هائلة للوعي العربي: للمقاومة وقع خاص في النفس العربي، وتطيب لأذن العربي مهما كان وأينما وجد. لكننا لا نعرف أهداف المقاومة المنظمة ولا “المقاومة” بشكل عام: هل هي تحرير فلسطين أو تحرير جزء منها، أم مجرد تنظيمات تريد التعايش مع إسرائيل ولو كانت معارضة لها، وزاعمة الرفض لوجودها. أم أنها مقاومة في سبيل المقاومة، تنتهي عادة بالانفصال عن الدولة العربية، حيث يوجد التنظيم. ولا يخفى أن وجود إسرائيل ضروري لبعض أطراف “المقاومة” إذ يبرر وجودها، ولو كان الادعاء غير ذلك.
تشتيت الوعي لم يكن مسألة ثانوية نظراً لما في الوجدان العربي من حساسية تجاه قضية فلسطين. والكثيرون يعتبرونها جوهر القضية العربية. وإذا كان الجوهر مختلاً فلا غرابة أن يصيب ذلك الأعراض، أي ما ليس جوهرياً. لكنه يمكن أن يكون مهماً. يشمل تشتيت الوعي الأهداف كما ذُكر سابقاً والوسائل، خاصة فيما يتعلّق بدور الدولة والمواقف في المجتمع، كالمقاومة وغيرها من القوى التي تتخذ أسماء مغايرة؛ ومدى تدخل الدول العربية والعلاقات فيما بينها. ولا نزال نذكر الخلاف العتيق في ستينيات القرن الماضي حول الوحدة طريقاً لتحرير فلسطين أو العكس. والعديد من هذه الجدالات مفتعل، ليس المقصود منه الحوار للوصول الى أهداف ووسائل مشتركة، بل الخلافات وصولاً إلى الفتن التي تنتج حتماً عن حوارات الطرشان. والفرق كبير بين حوار يجعل من التنازلات طريقاً يوصل إلى مشتركات، والحوار الذي لا يبغي إلا إثبات وجهة نظر دون غيرها.
يصل الأمر إلى أعماق الذات العربية، إن صحّت التسمية، ويشمل وعي العرب بأنفسهم. فهناك جدلية بين ما يفرقهم عن بعضهم كدول، وبين ما يفرض عليهم التواصل، وأحياناً الكلام حول التكامل، الذي يبدو نوعاً من الرياء عند الطبقات الحاكمة، وليس كذلك عند العامة الذين تفوق مشاعر الوحدة بينهم، بخاصة على صعيد اللغة والدين، عوامل التفرقة والتجزئة. لم يستطع العرب التوفيق بين الكيانات التاريخية لكل قطر منهم وعلاقات التقارب بينهم في كثير من الأمور المجتمعية.
أكثر ما يصدم هو عدم الاتفاق على معنى النصر والهزيمة في المواجهة مع العدو المشترك، وهو إسرائيل؛ والذي يبدو أنه لم يعد كذلك بعد أن كان مجرد التقارب معها يعد خيانة للمصير المشترك. من صالح كل فريق باشر عمليات ضد إسرائيل أن يعلن النصر، وغالباً ما يكون ذلك بصيغة أننا حققنا صموداً منع العدو من تحقيق أهدافه، علماً أن العمليات ليست في معظمها أكثر من خربشة تصيب إسرائيل. إن النصر بمعناه الحقيقي ، وهو كسر إرادة العدو، غائب تماماً عن الوعي العربي. فكم من هزيمة أخرجت على أنها انتصار.
ربما كان آخر ما يتوقعه العرب من قادة المنظومة السياسية-العسكرية الحاكمة هو الوحدة السياسية، لكن العمل المشترك على أهداف ووسائل مشتركة ليس خارج المنال. وليس مما لا يمكن توقعه. لكن هذه المنظومة تستعصي على شعوبها وتفتعل الخلافات فيما بينها، إن لم يكن لها أسباب موضوعية. وما يربك العربي هو التساؤل عن ماذا ينتظر الحاكم أكثر من أن يكون حاكماً! فلماذا يحتاج الى الخلاف مع جاره وربما النزاع بينهما؟
إن الدول العربية ليست دولاً حقيقية. هي مجرد انظمة حكم واستبداد الذي تعتمده أساساً للسلطة، مهما كانت الكلامولوجيا الديمقراطية التي تنطق بها هي والنخب التابعة لها. لا بدّ لهذه الدول من سياسات تنمية حقيقية تربطها بمجتمعاتها، وتجعل هذه تعتقد أن من في السلطة يستحق ذلك. إن معظم تجارب التنمية الحقيقة في العالم المعاصر حصلت بالتعاون بين النخب والسلطات الحاكمة. لكن النخب الحقيقية التي لديها اعتداد ثقافي وسياسي بالنفس ليست من النوع الذي تحب أنظمة الاستبداد. لو كان الحاكم العربي ذو انتماء حقيقي لمجتمعه لما نفر من النخب التي تمتاز بنفسها وتبتعد عن مجرد أن تكون مع التوابع الذين لا همّ لهم إلا التقرب من السلاطين. حتى في لبنان الذي يختلف سياسياً عن غيره من البلدان العربية، لا نرى سادة الحكم يتعاونون مع الأكفاء بل مع الأتباع مهما كانت قدراتهم العقلية والعملية. لكن أكباش الطوائف لا يقصرون في تصريحات العداء لإسرائيل حفاظاً على “الشعبية” والمقبولية في حين لا يصدر عنهم إلا الفشل.
إن أهم تداعيات قضية فلسطين ليس الحق العربي وحسب، بل حرمان الفلسطيني من الدولة، وتقديس فكرة المقاومة، وتشتيت الوعي العربي، حتى صار التقدم والتنمية مستحيلين، علماً أنه بدونهما لن يحرز العرب نصرا ضد إسرائيل، ناهيك عن التحرير الكامل.