الاخلاق: كيف تستعيدها السياسة من الدين
الاخلاق هي ان تقوم بما يجب القيام به لأنك يجب ان تقوم به. واجب أو واجبات تفرض عليك التقيد بمعايير وقيّم واقعية تجعلك تفكر وتمارس بطريقة معيّنة، والاّ تحرّك ضميرك بإتجاه غير مريح لك. ان تعمل وتفكر حسب ضميرك، ان تكون شبيهاً بنفسك دون كذب واحتيال او نفاق ومراءاة. النفس أمّارة، كما هي متهمة في الدين. الرغبات كثيرة. لكن الرادع الاساسي هو الضمير، هو الصوت الذي بداخلك والذي يناديك بأنّ هذا خطأ وهذا صواب. صوت ليس من الخارج، حتى ولو كان الهياً دينياً. لا تكون منسجماً مع نفسك الا عندما يرضى عنك الضمير الذاتي، الذي بداخلك.
يحدد الضمير علاقاتك بالناس، لكنه كيان شخصي ذاتي. فرديتك هي، بمعنى ما، ضميرك. الضمير هو البنية التحتية للسياسة، اي علاقات الناس فيما بينهم. السياسة ادارة شؤون المجتمع، وليست مجرد صراع على السلطة. تتكون السياسة من أفراد يقيمون علاقات فيما بينهم. يفترض بالافراد ان يشاركوا في المجتمع. ما يمنعهم عبر التاريخ هو تراتبية المجتمع، اي انقسامه الى طبقات فوق بعضها بعض. بعضها أكثر شرفاً ونبلاً وبعضها أقل. الاكثر شرفاً يأمر ويستولي ويستأثر بعمل المجتمع وانتاجه. وبعضها الأقل شرفاً ونبلاً، أو بالأحرى المجردون منهما، يضطرون الى الخضوع والاذعان والتخلي عن جزء من انتاج عملهم. لم ينقسم مجتمع تراتبياً وطبقياً الا بالقوة، بإستخدام وسائل العنف. نتيجة ذلك تُمنع الاكثرية، وهي الطبقات الدنيا، من المشاركة في ادارة شؤون المجتمع، تُمنع من حق المواطنة. هذا المنع له أسماء عديدة : العامة، الفلاحون، العبيد، الارقاء، الاقنان، الاتباع، الخ…
حروب خارجية تشنها الدول ضد بعضها، فيصير المغلوبون عبيداً أرقاء؛ او حروب داخلية تشنها الطبقات العليا فيصير المغلوبون فلاحين وأقنانا وعبيداً. يحصل التملك نتيجة فرض الارادة على الغير وعلى الارض. تستأثر الطبقة العليا بالارض نتيجة العنف. ما كان الاستبداد يوماً الاّ من أجل الاستئثار بموارد المجتمع وانتاجه. تتناقض السياسة، وبالتالي الاخلاق، مع أسس المجتمع الطبقي القائم على التحكم والعنف والحرب والملكية الخاصة والابتعاد عن الروح التعاونية. يفرَغ المنتجون العاملون في الارض والحرف من مشاركتهم ومن ضميرهم.
حاول الدين التدخل لتنظيم الامور ووضعها على أسس تكون صدى للآلهة المتعددة عند الوثنيين، او (الاله الواحد القهار) بعد ذلك. اعتقدت الاديان ان تفسير الكون بقوى خارقة تدرجت الى اعطاء هذه القوى الخارقة صلاحية سن القوانين وصنع قواعد الاخلاق وانزال العقاب بمن يخالف. لكن المؤسسة الدينية بقيت في الهيكل، تخضع لأصحاب الهيكل الذين يمثلون الالهة على الارض.
ميّزت الاديان بين الروح والنفس. الروح منبثقة من الالهة أو الله. النفس هي ما في الكائن البشري مما هو غير مادي، هي الضمير. انفصلت الروح عن النفس، وانفصل الله عن البشر، صار البشري على صورته، ولم يعد الله كامناً فيه. لم يعد الله ذلك المطلق الذي يشكل المصير الانساني والكوني. صار هو البداية والنهاية وما بينهما. انعزل الانسان عن الكون. جرّد من طبيعته. اصبحت معطاة. زالت الارادة البشرية. صار كل فعل مقرراً في السماء. صار البشر أداة في سبيل مصير مقرر سلفاً، مصير تقرره قوة خارقة لا قدرة للبشر على التدخل في شؤونها. صار البشر أداة لغيرهم من الطبقات العليا التي اعتبرت انها الممثل الشرعي والوحيد لله على الأرض.
في الاساس، لا علاقة للدين بالاخلاق. الدين مؤسسة معرفية؛ معرفة مبنية على مبدأ الخلق. تحوّل الدين من محاولة لتفسير الكون الى أداة للسيطرة. بنيت على محاولة التفسير هذه ” معارف ” واسعة تتعلق بالارادة الالهية : الحلال والحرام وما بينهما أوامر تقرر من خارج الضمير البشري. المعرفة الالهية صارت أداة أمر، الأداة بيد الطبقة المهيمنة. كلما جرت محاولة لإيجاد علاقة مباشرة بين الله والبشر منعت، جرت مصادرتها لصالح الطبقة العليا.
القضية التي كانت، وما تزال، تثير حفيظة الدين هي الخلق وسيرورة الكون. لذلك كان في أولوية الدين رفض العلم (الحديث غير الديني)، غاليلو مثلاً، ورفض الفلسفة، كما احراق كتب ابن رشد، مثلاً آخر. لم يتهاون الدين مع العلوم المادية ولا مع الفلسفة. لكنه كان يصدر كتباً عن ” الحيل ” يقدمها للمؤمنين كي يمارسوا طقوساً معينة في الاحتيال على متطلبات الحلال والحرام (في البيع والشراء، وفي الربا، الخ…)، حتى الحلال والحرام كانا من المتطلبات المعرفية أكثر مما اعتبرت اخلاقية. محنة قِدَم القرآن، أيام المأمون، قامت على قضية معرفية.
ما غضب الدين قدر غضبه عندما تقدمت العلوم حول الطبيعة بالتجربة البشرية ونقضت مقولات الكينونة المؤصلة على الدين، وما أحرق كتباً مثلما فعل بكتب الفلاسفة. كان شأن الاخلاق متروكاً للنفس (اي الضمير) دون الروح. الروح من عند الله والنفس انسانية المنشأ. توارى الايمان بالله والانسان لصالح العقائد والطقوس.
عندما سيطرت الحداثة على المجال العلمي والمعرفي، أسقط في يد الدين. لم يبق له الا الاخلاق. استفاد من ذلك في سبيل الامساك بالسياسة وتجييرها للطبقة المسيطرة اجتماعياً. لكنه اضطر مع التطور العلمي والاجتماعي الى الاعتراف بالتطور الاخلاقي مع توجس كبير من خروج الامور من يده واستقرارها في السياسة. شدد على شعار ان الدين هو الحل لكل شيء. بنى صرحاً اخلاقياً صافياً للسلف الصالح، وسكن فيه. صار الماضي موقعه. داعش واخواتها تمثل الحالة القصوى لهذا المنطق. كان في الامر مناسبة كي يعلن النظام العالمي، وفي المنطقة العربية، الحرب العالمية على الارهاب والتكفير. صارا مسألة اخلاقية لا سياسية، علماً بأن الارهاب عبر التاريخ تمارسه السلطة ؛ والتكفير ايضاً كان يُحتفظ به لمن لا يوالي السلطة.
صراع بين الدين والسياسة حول امتلاك الضمير البشري، وحول مصادرة الاخلاق. عندما يدين الانسان بالاخلاق لقوة خارجية يكون قد تخلى عن ضميره وعن الاخلاق. عندما يستعيد الانسان ضميره فإنه يستطيع الممارسة والتفكير اخلاقياً ويكتسب حريته ويستحق ان يكون كائناً مستقلاً. يصير مواطناً. عند ذلك يمارس السياسة ويشارك في المجتمع ويبني علاقاته على اساس حاجاته الروحية والنفسية، لا على اساس رغبات وأوامر خارجية. السياسة، لا غيرها، تحمي الاخلاق.