الهوية بين حدين: القتل والتجاوز
الهوية هي ان نكون ما نحن عليه. وهذا نقرره نحن (نقرر مصيرنا) او نكون ما يراد لنا ان نكون فيصنع الغير لنا مصيرنا. الهوية اما معطى يقرره الغير او التاريخ او التراث، او ارادة المصير الذي نصنعه نحن. نفقد حريتنا عندما يصنع الغير هويتنا او حتى عندما نستمدها من التاريخ والتراث. نكتسب حريتنا عندما ننتج هويتنا. نصنعها بإنتاجنا لها. الفرق كبير بين هوية نصنعها وأخرى تُصنع لنا.
الهوية المعطاة سواء من التاريخ أو التراث أو من صنع الغير لنا، تقيدنا وتكبلنا وتجعلنا عبيداً مستتبعين لغير ذاتنا. الهوية التي نصنعها نحن نتجاوز بها التاريخ والتراث وتستجيب هي لحاجاتنا التي نقررها نحن ولا يقررها الغير لنا. في هذه الهوية تتدخل السياسة والقدرة على الانتاج والتنمية وقضايا المجتمع والدولة. لا نستطيع ان نصنع هويتنا الجماعية الا بالحوار والنقاش وتبادل الافكار مع الغير، ولا نستطيع تحقيقها الا بالتسويات وتراكم التسويات وغير ذلك لما يدخل في باب السياسة.
يتطلب ذلك (أي صنع الهوية) فتح العقل على مصراعيه، ترك الوعي يتطور ليصير أكثر شمولية للقيام بخيارات أنسب. يضطر أهل السياسة للعمل في مجتمع مفتوح ودون أبواب مغلقة في وجه النقاش والحوار والتسوية، قاعدته قبول اختلاف الآراء، والتمرد على التاريخ والقطيعة مع التراث الذي لن نفهمه الا اذا وقفنا خارجه ومارسنا النقد والتقييم حياله. بالطبع نحن لم نولد خارج التراث، وليست ذاكرتنا دون تاريخ، وكل بناء فكري لا يستطيع التخلص مما هو موروث، لكن التجاوز يقضي بإستعمال عناصر التاريخ والتراث في بناء جديد، بناء لوعي منخرط في العالم، يتبنى ثقافة الغرب دون انتقائية. ذلك يتطلب الاعتراف بعالمية الثقافة الغربية لا لأسباب تقنية فحسب بل لأسباب معرفية استمولوجية أيضاً. تفوق الغرب التكنولوجي جاء نتيجة التفوق العلمي. والتفوق العلمي جاء نتيجة أولوية الاستقراء على الاستنباط في المنطق، وجاء نتيجة أولوية البحث في الطبيعة وملاحظتها على الاكتفاء بعلوم دينية جوهرها البحث في معاني كلام الوحي وما أراده الله. العلوم الدينية الاستنباطية لا تقدم جديداً. هي فقط تستخرج استنتاجات لها مبادىء أولى، تستخرج معرفة مجهولة من معرفة معلومة. لا تنتج فكراً أو وعياً جديداً، تنتج وعياً يدور حول نفسه. لا يستطيع أصحاب هذا الوعي الدفاع عنه الا بالعصبية وإدعاء امتلاك الحقيقة الأزلية. بالإستقراء من ملاحظة الطبيعة نكتشف مبادىء جديدة ونبني عليها، نحقق التجاوز، عندها نستحق مكاننا في العالم، ننخرط في العالم.
المنطق الاستقرائي يدفعنا الى ملاحظة الطبيعة واستخراج مبادىء جديدة منها، يسمونها العلوم الوضعية. يتوسع أفق الفكر والوعي عندما يتجاوز نفسه ويكتشف مبادىء جديدة. يكون قادراً على استخدام هذه المبادىء من أجل التقدم والانتاج والتحديث. العلوم الدينية الاستنباطية تكبلنا في مبادىء أولية، في اعتبارات نراها مطلقة وثابتة عبر العصور. مبادىء تكتسب هيمنتها من قدسيتها، وذلك بإنتسابها الى عالم السماء لا عالم الارض والطبيعة. هي والعبودية صنوان. الحقيقة المطلقة الموحى بها لا بدّ أن نكون عبيدا لها ولمن أصدرها، والا فهي تفقد طابعها. الهوية المعطاة، الهوية التي تصنع لنا، تضعنا في قفص العبودية. تحيل الاجتهاد الى تكرار واجترار. تكرار المعروف واجترار ما جرى تكراره. الحوار المتعلق بها هو نوع من الخطابة الفارغة، حيث يتم التحذلق والتفلسف والتعقيد في استخدام اللغة. تتجدد اللغة بإكتشاف مبادىء جديدة . نضطر الى إضفاء اسماء جديدة وافعال جديدة، نضطر الى الابتكار في اللغة بما يتطابق مع الابتكار في التفكير. الابتكار في التفكير وفي الوعي يطرح علينا الحاجة الى مفردات جديدة لا نضطر الى الابتكار، والى الشرح على الشرح، والى التهذيب على التهذيب، لما هو معطى في كتب التراث.
مع الاستقراء والاستنتاج والتفكير وتطوير الوعي لا نكون سلفيين، لا نضطر الى تقليد السلف الصالح وإراحة عقلنا من مهمة معرفة ما كانوا ينوونه عندما قالوا كذا وكذا. نتحرر من انفسنا، نتجاوز أنفسنا. حقيقة الأمر اننا نتجاوز هويتنا المعطاة، او المفروضة علينا، او المصنوعة لنا، او المفترضة اننا عليها قائمون.
بالتجاوز تضطر آلة العقل للعمل حسب قواعد مختلفة عما ورثناه وعما فينا، يتوسع أفق الوعي، يدخل في عقلنا منطق جديد شجاع لا يهاب الخروج على المألوف والموروث، ليس في الأمر عداء للموروث، بقدر ما فيه تطلع نحو التجديد والتغيير والعمل لتلبية حاجات ولدت مع العصر وصار من غير الممكن معالجتها بالطرق والاساليب القديمة. نستخدم التكنولوجيا، نستهلكها، بعقل قديم. نحتاج الى عقل جديد وممارسة خارج الدين كي نستطيع فهم التكنولوجيا الجديدة وانتاجها كي لا نبقى مجرد مستهلكين لها، مستوردين الآتها وبرامجها. لا نستطيع فهم التكنولوجيا الا بعلم جديد وضعي مختلف عن العلوم الدينية.
الانخراط في العالم يعني تبني الثقافة الغربية، ثقافة العالم، من أجل فهم العالم والفعل فيه. لا نحقق استقلالنا الا مع تزايد قدرتنا على التفكير والفعل. التفكير من أجل الاكتشاف، والفعل من أجل تحقيق الارادة وتقرير المصير.
التجاوز والانخراط في العالم لا يعنيان التخلي عن ذاتنا، بل التخلي عن الذات الموروثة والمقررة سلفاً، من أجل ذات جديدة تكون عنواناً على التحرر. من أجل ذلك ليس المطلوب تسوية مع الذات، تسوية تتطلب الانضواء تحت مقولاته والانطواء في قوالبه. نحتاج ان نضع أنفسنا خارج أنفسنا كي ندرك أنفسنا. يستحيل هذا الادراك من الداخل. القطيعة مع التراث معناها الوقوف خارجه ونقد أفكاره. لا يمكن انكار ما وُجِد عبر التاريخ، وصولاً الينا. يمكن التجاوز بالإنخراط في العالم وتبني ثقافة ووعي أكثر فاعلية. نحتاج الى استيعاب العالم في أنفسنا، وذلك لا يكون بالمواجهة الثقافية. اذا اردنا رفض مقولة صراع الحضارات، وهذا هو الشائع عندنا، فمعنى ذلك أننا ننوي استيعاب الحضارات الآخرى، ليس الأمر الاعتراف بالآخر، بل استيعابه في ذاتنا.
الهوية وصف، بالأحرى تعريف، للأنا الفردية أو الجمعية. ان يكون الشيء أو الشخص هو، أي أن يؤكد ذاته. مشكلة سياسات الهوية، بالأحرى سلوكيات الهوية حين يصير التأكيد على الذات أولوية على كل شيء آخر. تنفرد الذات بنفسها، تلغي النظر الى الآخر، تنفي اعتبار الآخر، تعزل نفسها عما هو موضوعي، يتضاءل الموضوع بالنسبة للذات. تفقد هذه اعتبارها لما هو في خارجها. الذات، الأنا، والجماعة الخاصة بنا تُعدم الآخرين، ذهنياً أولاً، وربما مادياً ثانياً. لا بدّ لكل شيء أو انسان من هوية. هوية الانسان ان يشبه ذاته، لا ان يعدم الآخرين. لا ضير أن اكون أنا كما أنا، بالأحرى لا يمكن ان يكون الأمر الا كذلك. المشكلة هي فقدان الأنا لذاتها عندما تنضوي تحت مظلة التراث أو الغير. الهويات القاتلة هي التي تتمحور حول ذاتها، ولا تعطي اعتباراً الا لذلك. لا بدّ من هوية، لكن ان تتحول الهوية الى ايدولوجيا الوجود هو ما يجعلها قاتلة.
الهوية ان يطابق الشيء نفسه، ان يكون مطابقاً لنفسه. هذا في المنطق والرياضيات، وفي الاخلاق يقال ان تأسيسها قائم على كون المرء صادقاً مع نفسه، مطابقاً لها، غيرمنافق في ادعاء شيء خفية وزعم شيء آخر في الظاهر. لا يحدث ذلك الا في الدولة، عندما يعلو الانتماء لها على كل انتماء آخر.
كل منا متعدد الهويات، مع كل انتماء هوية. يمكن ان يكون المرء عربياً ولبنانياً، ومنتمياً الى قريته، ويمكن ان يكتسب هوية المهنة والنقابة التي ينتمي اليها او الحي الذي يعيش فيه. ينتظم المجتمع عندما تتقدم هوية الدولة على كل الهويات الآخرى. عندما يتجاوز المرء كل الهويات والانتماءات الاخرى ويعطي أولوية مطلقة للهوية التي تمنحه اياها الدولة فإنه يمنحها الشرعية بالمقابل، ويصير مواطناً، يمنحها مواطنيته، يستوعب الدولة، تصير الدولة جزءاً منه ومن ضميره ووعيه. الطائفة تستوعب الفرد، تحوله الى وعيه، تنزع عنه صفة المواطنية اي الشراكة السياسية. لا يستوعب الطائفة الا الزعيم أو طبقة زعماء. في المواطنة، حيث اولوية الانتماء للدولة، وحيث يتماهى الفرد مع الدولة، يصير الفرد جزءاً من الدولة والدولة جزءاً من الفرد. يتطابق الضمير الفردي مع الدولة والمجتمع، ويصير للوطنية معنى، وتصير الوطنية ملازمة للدولة وصفة لها. يفقد الفرد وطنيته بالطائفة والطائفية.
الدولة الحقيقية، في هذا العصر، هي دولة المواطنية والسياسة، دولة المواطن المشارك في مصير مجتمعه، المواطن الذي يصنع دولته ومصيره. لا يحدث ذلك الا بالتجاوز لما كنا عليه، والانخراط في العالم، في ثقافة العالم، لنصنع مصيراً يكون هوية جديدة لنا. ليست كل هوية قاتلة. الهوية التي تصنع لنا هي القاتلة، وما يصنع لنا هو إما الغير أو الوعي المتخلف الذي يعيش في الماضي ويرفض المعاصرة.