التاريخ علم يخضع له التراث
يهدف هذا المقال الى التمييز بين مفهومي التراث والتاريخ. مفهوم التراث لا يخضع للتحليل العلمي، هو مسألة تتناول الممارسة من أجل النضال في اطاره الذي يعبر عن وجدانها شعبياً، تشيح عنه البرجوازية لكنها تعمل على مصادرته عند الحاجة. لكنه يبقى هو وجه الممارسة الشعبية، والتعبير عن الالام وعذابات هذه الطبقة خلال قرون عديدة. التراث الاعلى مسألة اخرى. ذلك كان من صنع السلطة وزبايتها وكان من الضروري تبيان ذلك.
يتطلب البحث في التراث انحيازاً لا يتوفر. اولاً يفترض ان يتوفر في علم التاريخ، بينما ينتقي التراث بعض الممارسات التي كان يمارسها القدماء لتكون تراثاً للبعض، فإن على التاريخ ان يأخذ الحوادث الماضية بعجرها وبجرها لوصف التاريخ. هناك عقل يتوفر في علم التاريخ لا يتوفر في البحث عن التراث الذي يبدو دائماً مشحوناً بالعواطف والوجدانيات مما لا يخضع للبحث العلمي.
ينطلق علم التاريخ من فرضيتين هما الحياد والتجاوز. في التراث روايات متناقضة عن حدث واحد، وفي علم التاريخ محاولة لانشاء رواية واحدة عن الحدث او السلسلة التي يرتبط بها الحدث. ليس الحدث معزولاً في علم التاريخ بخلاف التراث. في التراث أشعرية تعتبر ان كل حدث يقرره الله بغض النظر عن الاسباب والنتائج. ولا اهمية بنظرهم للاسباب والنتائج ما دام الله يقرر كل حدث بمفرده.
منهج التراث هو الانتقائية من الماضي. منهج التاريخ هو أخذ الامور بعجرها وبجرها، لا انتقائية ولا تلفيقية في التاريخ. هناك علم موضوعي، وبعد انتهاء البحث تجوز الحيادية شرط أخذ البحث بعين الاعتبار. في بعض التراث ممارسات شعبية لا يمكن التخلي عنها. وفيه وجدان لا يجوز التخلي عنه لأن استنتاجات التاريخ تحتاج بعد ان تترسخ الى وجدان عاطفي لدى الامة يحصنها. البحث الاكاديمي ليس اكاديمياً في كل الاحوال، لكنه يجب ان يكون على أسس علمية صارمة. أما نتائجه فللتراث الحق في استخدامها، خاصة اذا كان التراث شعبياً (ليس مما ألفته الطبقة الرفيعة) فيكون من مستلزمات الطبقات الشعبية الفقيرة، وممارسة هذا النوع من التراث ذو فرح يتجاوز فيه معذبو الارض بعض الآمهم ونتائج اقتطاع الفائض الذي تمارسه الطبقة الرفيعة من اصحاب الارض الكبار وملتزمي جمع الضرائب، وغيرهم من أجهزة السلطة. للطبقة الرفيعة تراثها وهو القهر والقسر والاكراه، وللطبقات الفقيرة تراثها لتجاوز الالم والفقر والمصادرة لما ينتجون بقوة عملهم.
مهمة علم التاريخ ان يعرف كل ما حدث، وان يعطي كل ذي حق حقه. لا يستطيع ذلك الا اذا كان موضوعياً وحيادياً. يأتي الانحياز بعد ذلك. في موقف سياسي، السياسة هي المعرفة اولاً والموقف المؤسس على المعرفة ثانياً.
التاريخ والزمن وجهان لعملة واحدة. الماضي والحاضر والمستقبل. الماضي معطى، والحاضر لحظة عابرة، والمستقبل هو ما يتطلب صنعه. المجتمع القوي يأخذ الحاضر كمعطى، ولا يستسلم له، بل يفككه. يعتبر التاريخ انه هو ذاته سلسلة الاحداث، كل حدث او صلته تنشأ في قلب الحلقة السابقة، وكل حلقة جديدة تنتج حلقة أخرى يبدأ تكونها في قلب الحلقة السابقة. اذاً التاريخ سلسلة من الاسباب والنتائج المترابطة، هو علم لا تدخل فيه العواطف والانحيازات، يدخل فيه حب المعرفة فقط. لا تكون المعرفة حقة الا بأن نأخذ التاريخ بعجره وبجره، كي لا نصور تاريخنا بأنه يختلف جدياً عن تراثات الشعوب الاخرى الا في بعض الخصائص.. هناك تاريخ عالمي، نحن جزء منه، وهو جزء منا.
عندما كان مجتمعنا قوياً متماسكاً، كما في العهود العباسية الاولى، لم يجد الناس ضيراً في ان يأخذوا من حضارات الأمم الاخرى ولا ان يدمجوها في ثقافة عالمية هي الثقافية العربية. كان العرب في ذلك الحين اقوياء فلم يتوانوا عن جعل ثقافتهم ملعباً تلعب فيه الثقافات الاخرى لتنتج جراء ذلك ثقافة موحدة في اطار الثقافة العربية. لم يتوان العرب عن اعتبار ذلك يناسبهم في خضم مشروعهم الثقافي العالمي، بل لم يتوانوا عن وضع قواعد اللغة العربية التي كان فيها ما يخالف بعض قواعد املاء الكتاب المقدس. هذا في وقت كانت فيه محكمة المعتزلة التي اشرف عليها المأمون تمارس ما سمي فيما بعد المحنة الكبرى (اعتبروها أهم من الفتن العسكرية التي كانت تحدث تباعاً في سبيل الصراع على السلطة). علينا ان نعرف هذه الامة التي ننتمي اليها، والتي لا يمكننا الانتماء لغيرها، والذي يشكل انتماؤنا اليها جوهر عروبتنا، هذه العروبة التي لولاها لما كانت الحياة تستحق التمسك بها. هذا مع التنبيه الى ان العروبة شيء والافكار التي تعبر عنها ليست منها اذ كثيراً ما يأتي التعبير خاطئاً، ان كان ذلك بإستخدام مفاهيم قومية او مفاهيم اسلامية، مفاهيم وجدت هنا وهناك لمصادرة الامة وناسها في سبيل مشاريع اعتبرها اصحاب النظرية القومية والاسلامية جماهير ناقصة الانسانية، يسودها الفقر والجهل والمرض، فهي بحاجة الى هداية او الى اعادة تشكيل. الاسلاميون اعتبروا مهمتهم اسلمة المسلمين ولو كانوا مسلمين يؤدون شعائرهم الدينية. والقوميون اعتبروا مهمتهم الاساسية اعادة توعية الجماهير الجاهلة كي تلين بحكمهم الذي كان في غالب الاحيان استبدادياً. وقد حدثت ثورة 2011 في تونس ومصر طلباً للكرامة للمواطنين العرب في وجه منظومة حاكمة استبدادية اخذت منهم وسائل العيش الكريمة ووعدتهم بالحرية وحنثت بوعدها. هذه الاستعلاءات القومية والاسلامية ما كانت ممكنة لولا انها كانت ممسكة بالسلطة. لم تكن الحرية على جدول الاعمال بل الطاعة والانصياع. حلت هذه النخب السياسية مكان الانتداب والاستعمار في اعتبار الوصاية على الشعب والمجتمع امراً ضرورياً للتنمية. في عام 2011 وجدت جماهير الامة نفسها محرومة من الحرية ومن التنمية. ثارت لأنها اعتبرت نفسها خسرت كل شيء من مقومات الكرامة في ظل منظومة الاستبداد.
الصراع داخل المجتمع العربي هو بين اتجاهين، اتجاه السلطة الذي يرى الجماهير قاصرة، مجرد أداة لمن يمارسون السلطة، واتجاه آخر شعبي يسود بين الطبقات الوسطى والفقيرة، يرى هذا الاتجاه ان التقدم اصبح مستحيلاً دون القضاء على منظومة الاستبداد العربية: جميع الدول العربية بلا استثناء.
ترتكز مقولات الاسلام السياسي والقومي على تقليد السلف الصالح، وذلك نوع من عبادة الاباء عند الشعوب البدائية، كذلك مقولات الاتجاهات القومية.
الوعي بالتاريخ يحتم علينا اخذ التاريخ بدون انتقائية وبدون تلفيقة. نرى ما لنا وما علينا. التاريخ بعجره وبجره. ليس التاريخ انتصارات وامجادا. الف عام من حكم المماليك والعثمانيين. الف عام من حكم العبيد. خلال ذلك كانت جماهير الامة مستغلة مصادرة لا يمكنها العيش اكثر من ثلاثين عاماً (متوسط الاعمار) بسبب ثقل العمل وثقل الضرائب.
الوعي بالتاريخ يعلمنا الاسباب والنتائج، وان ما يحصل على الارض هو ما يستحق البحث. كل ما عدا ذلك هو من مستلزمات السماء الذي يتحول فوائد عند العلماء واصحاب الالتزامات او ما سميناهم الاقطاعيين الذين عملوا كممثلين للسلطة لا غير. الوعي بالتاريخ يستخدم اسلوباً علمياً للتعرف الى مجتمعاتنا البشرية. هذا ما لا يفعله التراث.
الوعي بالتاريخ طريق الى العقل. ليس سوى العقل من يرشدنا الى الاسباب والنتائج والروابط فيما بينها. الفكر الديني السائد أشعري، وهو الفكر السائد. بالتعريف ينكر الروابط بين الاسباب والنتائج. لكل سبب مصدر الهي. لا يد بشرية في ذلك. مهمة الانسان في نظرهم هي التنفيذ لا الاجتهاد. مهمته استنباط الاحكام من مبادىء اولى وليس استخراج مبادىء علمية من ملاحظة الطبيعة.
الوعي بالتاريخ يتطلب ان ينصب اهتمامنا على صنع المستقبل. لا بدّ ان ذلك يصير ممكناً بفضل التجاوز والانخراط في العالم.. اما التجاوز فهو يقتضي منا ان نقف خارج تراثنا كي ندركه، وان نصل تاريخنا بتاريخ العالم كي نفهمه، وان نؤمن ان تاريخنا ليس مفصولاً عن تاريخ العالم، حتى ولو كان لدينا تباينات في الممارسات الثقافية. وكل تراث أمة يختلف عن تراثات الامم الاخرى. ان تنطلق ممارساتنا التراثية من املاءات الطبقة العليا وان نعتبر تاريخنا جزءاً من التاريخ العالمي، وان نعتبر الاخر ليس في مواجهة معنا، بل نحن نسعى لاستيعاب الاخر (استيعاباً ثقافياً معرفياً) لا ان نمتنع ثقافياً وحضارياً فنكف عن استخدام علوم الغرب في حين اننا نستهلك كل منتجاتهم. كي نصنع منتجاتهم، التي نحتاجها، علينا تبني الروح الغربية بما في ذلك القدرة على الانتاج. نحن مجتمع استهلاكي صرف، وعلينا الخروج من هذه الحالة حتى يمكننا الانخراط في العالم. لا نستطيع الانخراط في العالم دون استخدام ادواته الفكرية والمادية.
الخلاصة ان التاريخ ليس امتداداً للماضي والحاضر، هو صنع للمستقبل. الامر يتطلب معرفة وارادة وقيادة سياسية تعرف كيف تتواصل مع قوى المجتمع لاحداث نهوض ثقافي وتنموي، علماً ان كل واحد منهما لا ينفصل عن الآخر.
علم التاريخ هو في بعض جوانبه علم صنع المستقبل. هو ليس علم معرفة الماضي وحده. لا نستطيع ان نضع انفسنا حبساء، نستسلم له، فتكون النتيجة عزل انفسنا عن العالم.
في التراث استسلام، وفي التاريخ نهوض نحو مستقبل نصنعه نحن.