الانتلجنسيا العربية… المأزق والدور المفقود
طبيعي أن تعبّر الانتلجنسيا (النخب الثقافية المعرفية) عن مجتمعها وعن وجدانه وحاجاته. هذا ليس دوراً يكلّفها به أحد أو جهة خارجية أو داخلية. تعبّر الانتلجنسيا عن مجتمعها، وليس لها شيء آخر تتحدث عنه.
يتطلب ذلك منها قبل كل شيء معرفة هذا المجتمع والغوص الى اعماقه والالتزام بقضاياه وربط مصيرها به. لا يستطيع المرء التعبير عن شيء اذا لم يكن الامر في ضميره وروحه. والمسألة لا تتعلق بإعلان المحبة والعشق، بل بمعرفة المجتمع وتاريخه وتراثه والعمل على صنع مستقبله. المعرفة ليست بريئة. هي تتطلب السباحة ضد التيار أحياناً، ضد تيار الوعي السائد. وتتطلب التنوّع في حقول المعرفة، والتكامل فيما بينها. وقبل كل شيء، تتطلب العمل الجاد سعياً وراء تلك المعرفة. لا تحصل المعرفة بالاسترخاء والتأمل وحدهما، بل بتحمّل مشقة البحث والتمحيص والسؤال والشك والقلق، وتحمّل نتائج الخطأ. لا يعرف من لا يقلق، ولا يقلق من لديه الاجوبة سلفاً. صاحب الموقف يقيس المستجدات بناء على مواقفه. الساعي وراء المعرفة يبني الموقف لاحقاً بعد المعرفة. مهمة الانتلجنسيا الاساسية، وربما الوحيدة، هي المعرفة. المعرفة في سبيل المعرفة اولاً، والبناء على ذلك ثانياً. يبحث العارف ليس لتأكيد موقف سابق، بل ليجدد ويبتكر ويكتشف خطأه، ويتخلص من الخطأ حتى ولو كان مناقضاً لمواقفه السابقة. يعرف ليقول ما يريد الكل قوله من دون ان يتمكنوا من ذلك.
المعرفة الحديثة هي العلم الحديث، العلم المبني على الاستقراء وملاحظة المجتمع والطبيعة واستخراج القوانين منها. لا تستخرج المعرفة من مسلمات او بديهيات، مهما كان مصدرها. يتجدد العلم بتجدد المسلمات. احياناً يجري نسف بديهيات كانت تبدو وكأنها واضحة كالشمس في اشعاعها.
تتأسس معرفة المجتمع الجدية على مقتضيات العلم الحديث، لا على منجزات العلوم الدينية مهما كانت عقلانية. أقصى ما وصلت اليه العقلانية الدينية هو فكر المعتزلة. يبقى فكر المعتزلة دينياً مرتكزاً على الاستنباط لا الاستقراء. الدين يقيد الايمان بالخالق لا غير، ويتطلب ممارسات تتناسب مع ذلك. المبادىء الاخلاقية الملازمة للدين ليست مشتقة منه بل هي موجودة من قبل. لكن الدين ليس علماً، ولا علاقة له بالعلوم الحديثة بل يتناقض معها في غالب الاحيان. حارب الدين العلم في مجتمعات اخرى وفشل. واحدثت هذه المجتمعات تقدمها بالتسليم بأن المعرفة تؤسس على العلم الحديث، وان الايمان مؤسس على الدين، والفصل بين العلم والدين فصلاً تاماً. هذا يعني بالنسبة لنا رفض التأسيس على عقلانية المعتزلة، وبناء المعرفة على أسس جديدة. نستفيد من تجربة الغرب في ذلك.
الامر الثاني هو ادراك ان معرفتنا بمجتمعنا مستحيلة دون الاحاطة بالثقافة العالمية. الانخراط في العالم شرط أولي. لا خوف على الهوية من ذلك. الهوية الحقة تُصنع ولا تورث. يبنى على التراث، لكن ضرورة تجاوزه حتمية اذا اريد للانتلجنسيا ان يكون لديها ما يستحق الذكر. الانغلاق في اطار ما يسمى التراث، عدا عن الانتقائية والتلفيقية في تركيبه، يعني اننا نمارس انعزالية عنصرية تجاه انفسنا. الاحتجاجات المتكررة ضد مقولة صراع الحضارات لم تكن اكثر من ذلك. المجتمع الواثق من نفسه لا يخشى تقليد ما في الغرب. المجتمع العربي عندما كان قوياً واثقاً من نفسه ما أصيب بعقدة نقص عندما بنى نفسه على قاعدة الأخذ من الحضارات الاخرى التي كانت روافد المعرفة في حينه. سيبقى الوجدان العربي، وسوف يستمر الانتماء عربياً، لكن الحاجة شيء آخر. نحتاج الى العلم الغربي، وهو العلم الحديث.
يؤخذ على الانتلجنسيا العربية المعاصرة ان عقلانيتها تقنية، تأخذ بالتكنولوجيا الحديثة دون العلوم التي نتجت عنها. لذلك هي مجتمعات مستهلكة للتكنولوجيا وحسب، لا منتجة لها. الفرق بين العلم والتكنولوجيا هو ان الاول نظري يرتكز على استقراء الطبيعة والمجتمع واستخراج القواعد والنظريات من ذلك. بقيت الانتلجنسيا العربية مقصّرة في واجبها تجاه مجتمعها، مقصّرة في مهمتها المعرفية الاساسية، لأنها مستمرة في اعتناق ايديولوجيا دينية رغم استفادتها من تقنيات العلوم الحديثة. ديدنها الاهتمام بما تمليه ارادة الله وليس ملاحظة الطبيعة. بقي العقل مقصّراً بسبب حصر نفسه في العلوم الدينية وعزوفه عن العلوم الحديثة. بقي العقل استنباطياً لا استقرائياً. بقي عقل المعتزلة هو المثل الاعلى لوعي الانتلجنسيا العربية.
الوعي التقني هو في اساس التطرّف الديني. كثيرون من اتباع الدين السياسي وقادته هم خريجو كليات العلوم المادية، كالطب والهندسة والمحاماة وغيرها. لا تهمهم العلوم الانسانية او العلوم النظرية المادية. في القديم كانوا يطلقون على الميكانيكا علم الحيل. يذكرنا ذلك بكتب الحيل عند الفقهاء. احتيال على العلم، كما انه احتيال على الدين. التقيّد بالعقيدة مع فقدان الايمان، التناسب مع اشكال الدين مع مخالفة جوهره ومع البقاء على النقاء الطقوسي، اصرار على الطقوس الاحتفالية للقيام بما لا يتناسب مع الضمير في سبيل الانسجام الشكلي مع تعاليم الدين.
تتلافى الانتلجنسيا عندنا العلوم الانسانية والمادية، لكنها تجيد استخدام التكنولوجيا الناتجة عنها. تعتنق الدين وتتحايل على الاسئلة النظرية التي تطرح بفعل ملاحظة الطبيعة. انجازاتها في العلوم النظرية والفلسفية قليلة نادرة، بينما هي كثيرة في التكنولوجيا واستهلاكاتها. عقل متمسك بالدين الذي لا يرى تناقضاً بينه وبين العلم، على اساس ان في التكنولوجيا حلأً لكل المسائل المطروحة. امتناع عن مباشرة التناقض الحقيقي بين الدين والعلم. رضى كامل بالتكنولوجيا، ورفض شبه كامل للعلوم التي اسست التكنولوجيا على نظرياتها.
بنية ذهنية تغني عن المعاناة المعرفية، هي تطبيقية وحسب، تطبق ما اخترعه الغرب. تعترف بمعرفة الغرب التقنية، تغرف من نتائجها ولا تعترف بقواعدها. لم تستطع بعد المسّ بنظريات الخلق الدينية، وهي لا يمكن الا ان تؤخذ بمعناها المجازي. تصير هذه القصص عن الخلق خرافات اذا اخذت حرفياً. العلم الحديث غير موجود عندنا، أما ما بعد الحداثة وتقنياتها فهو في كل مكان.
لذلك تنعدم عندنا مراكز الابحاث العلمية، كما تنعدم الرهبنة المعرفية : ان تعرف في سبيل ان تعرف. ينعدم الفضول العلمي والفلسفي. عقل مستريح، يرفض مراكز البحث، لانه لا يريد ان يتعب دماغه بالسؤال والشكّ والقلق والمعرفة الناتجة عن كل ذلك.
يندرج ذلك على قضايا الامة الاستراتيجية. لم تقدّم هذه الانتلجنسيا، منذ ان نشأت الاحزاب التي رفعت راية أمة الاسلام او الامة العربية، اية فكرة حول القومية او الوحدة او قضية فلسطين. شعار المقاومة يكرر تجارب سابقة، بل يستنسخها دون تقديم بديل. الممارسة ذاتها من دون التفكير في أسس الهزيمة ومسبباتها.
لم تخترق الانتلجنسيا العربية سقف الدين فيما يخص المعرفة النظرية. لم تدرك ان الدين ايمان وحسب. كل ما عدا ذلك اجتهاد بشري. كل اجتهاد قابل للنقد، وكل ما نتج عن هذه الاجتهادات عبر التاريخ لا يُلزم المجتمع. يقتضي التجديد الفعلي تجاوز كل العلوم الاجتهادية الاستنباطية، التي استخرجت احكامها من مبادىء اعتبرتها مسلمات دينية. ليس مهما فصل الدين عن السياسة بقدر اهمية ادراك تناقض العلم الحديث والعلوم الدينية، تناقض المعرفة الحديثة مع المعرفة الدينية. الايمان يختاره صاحبه. هو علاقة بين الفرد وخالقه. كل ما عدا ذلك يخضع لمتطلبات العلم الحديث ونظرياته. الكتاب المقدس ضرورة للايمان. كل ما عدا ذلك من كتابات فقهية غير ملزم، بل غير ضروري للتقدم نحو مجتمع حديث.
تماهت الانتلجنسيا معرفياً مع مجتمعها. لم تتقدم عنه خطوة او خطوات. لم تستطع الوقوف خارجه من أجل ان تعرفه، وان تقوده. ليس ضرورياً الالتزام بالوعي السائد من أجل ان يكون المرء ملتزماً بقضايا مجتمعه. النقد هو في اساس البنى الفكرية للمجتمعات التي تقدمت، غيابه اساسي في التأخر والتخلف.
ولأنها لم تخترق سقف الدين فإن الانتلجنسيا العربية بقيت أسيرة المنطق الخلاصي لا التراكمي، او التطوري. وكما خلق الانسان من لا شيء، وفجائياً وحسب ارادة الهية، فإن الامة سوف تنجو فجأة من دون تراكم (من لا شيء) وحسب ارادة خارجة عن الانسان. ليس المجتمع، حسب هذا المنطق، نتيجة تراكم المنجزات والانتاج، ولا تطور يؤدي الى نتائج حسب الاسباب. الامة هي الفرقة الناجية لا بالعمل والاخلاق والانتاج بل بالتقيّد (الشكلي) بما هو مطلوب منها. هذا المطلوب لا يفترض به ان يكون حصيلة ارادة بشرية. الخلاص في الآخرة لا في هذه الدنيا. زهد بالدنيا، لكنه في حقيقته انكباب على الاستهلاك والملذات العابرة. لا لزوم للتفكّر طويل المدى. الخلاص في متناول اليد. ما علينا الا حسن التصرف. لا لزوم للتراكم ما دام الخلاص آتيا لا محالة.
لا تسأل هذه النخب الثقافية نفسها : كيف الخلاص في مجتمعات لا يتطور انتاجها، ولا تتراكم انجازاتها، ولا تساهم فعلياً في التقدم العلمي النظري والفلسفي ؟ لماذا لم تفلح العلوم الدينية الموروثة في انتاج تقدّم احرزه الغرب وتجاوزنا بمسافات طويلة ؟ لماذا نعيش في الماضي ونهمل اعتبارات التاريخ ؟ لماذا نجيد الحروب الاهلية، ونعجز عن التجمع من أجل الحرب الوحيدة المبررة في فلسطين ؟
الاسئلة كثيرة … يتبع