من شعبنا الى أهلنا، ضمور الوعي وتقلص العقل
يكثر استخدام تعبير “أهلنا” بدل شعبنا. فيقال أهلنا في الجنوب، وفي الشمال، وفي الجبل، ولا يقال في لبنان. الظاهرة عالمية. بالأمس رأينا رئيس الولايات المتحدة يتحدث عن العائلة كرأس القيم الأميركية، وعن الوطن الأميركي وكأنه عائلة واحدة. لقد ضمر مجال الهوية وتقلصت حدودها. كما جرى تدعيم المفهوم بالبيولوجيا. فصارت الهوية وكأنها حصيلة جينات بيولوجية. صفات تقررها الجينات وكأنها غريزة.
تضمر الهويات وتتقلّص. لا يُراد لها الوجود الواسع الذي يمكن أن يشمل أمة عربية أو ما شابه ذلك. حتى الدولة المصرية أو الدولة اللبنانية أو الدولة العراقية أو السورية… تخضع لضغوطات داخلية وخارجية، وربما تؤدي الى تفكيكها. الكيانات الصغرى تحل مكان الكيانات الكبرى في الذهن، وتتقلّص الهويات. تصير الانتماءات محلية أو طائفية. جرت رؤية خطورة الكيانات الكبرى: يجري تمزيقها. الكيانات الصغرى يسهل ابتلاعها ومضغها أو بالأحرى تطويعها. على كل حال، لا شيء يمنع أن يكون الكيان صغيراً وقوياً في آن معا. مصدر قوة هذا الكيان دعم الامبريالية الأميركية، لكنه إذا استجرّ الدعم ورفع إنتاجه في الداخل وصار قوياً بحد ذاته يصير خطراً أيضاً.
من ناحية أخرى، تفرض الهويات الصغرى أن يتصرف أتباعها على نمط واحد. الاختلاف ممنوع داخل الهوية. الآخر ملغى. الآخر المقبول حتى إشعار آخر، هو من الهويات الأخرى المجاورة. الوصول الى ذلك يتطلّب ما يشبه التنظيف العرقي. صفاء العرق الموهوم، وحدة الهوية المتخيلة، تناغم الطائفة، انسجام المذهب، فرض المذهب الواحد، إقصاء الغرباء، إبعاد غير المرغوب بهم، وكل ذلك بتهمة التكفير والإرهاب، أو غير ذلك. يجب أن تبقى جماعة الهوية على صفائها وإلا كان ذلك خطراً على وجودها. في بلد كلبنان يُستعاد الخطاب الطائفي بأكثر فظاظة ووقاحة وعريراً. يراد إما إعادة توزيع الحصص على الطوائف، وإلا فإن كل طائفة خاسرة. كيف تكون الدولة وكل ما فيها خاسر؟ هل تُبنى الدولة على خسارة. يُقال إن في لبنان لا دولة، لأنّ شكل الدولة الحالي مرفوض. يُعتبر مصدراً للخسارة.
في ماضٍ امتدّ بضعة عقود قبل الحرب الأهلية، كانوا يقولون أن الانتماء للكيان مزيّة، تمايز. اليوم أصبح الانتماء للوطن، للدولة، للكيان مرذولاً بحجة الخسارة. الدولة كما هي، الوطن كما هو، شيء لا يستحق الاعتبار. يُهمل، لا يستحق العمل لانشاء البنى التحتية ولا الاستثمار لتكبير حجم الإنتاج والاقتصاد. للهوية مطالب أخرى تتعلّق بالسياسة، بالأحرى بالرموز الطائفية والدينية والمذهبية. يتلاشى الحديث عن هوية عربية لأنها هوية كبرى. الأجدر الحديث عن هويات صغرى. تصغر الهويات، وتضمر معها العقول. أحياناً تضمر الهوية لتشمل شخصا واحدا، تُعتبر كرامته رمزاً للهوية. بالطيع ممنوع المس بالكرامات: يصير المس بالأشخاص، مهما كانت سياساتهم، محرماً. عملياً يجري تحريم السياسة. نصير في مجال المقدّس والمحرّم. والأنكى ندخل عصر القمع الذي تمارسه الهويات لا النظام أو ما بقي من الدولة والأجهزة.
تحدد الأهداف لكل هوية عشوائياً. العشوائية في مقابل القانون. يتراجع القانون أمام العشوائية. لا تستطيع الأجهزة فرض هيبتها. يتجلى ذلك في الحياة العامة في الشارع. تُغلق وتُفتح طرقات؛ تُساق السيارات من دون انتظام. نظام الكهرباء غير موحّد. كذلك التزويد بالمياه والتخلّص من النفايات، إلخ… في زمن العشوائية يقال حارة “كل من إيدو إلو”. ليس الفساد هو العلة الكبرى، بل هي العشوائية. القانون يسري على الجميع. لذلك يُرفض. العشوائية تسري على مجموعات صغيرة يمكن ضبطها؛ إذن هي المطلوبة. في مجتمع عشوائي يكون العقل عشوائياً ومشوشاً. لا مكان فيه للقوانين الموضوعة التي تنظّم المجتمع، ولا مكان فيه لقوانين العلوم الفيزيائية والكيميائية وغيرها. ولا مكان فيه للعلوم الميتافيزيقية. لا مكان فيه لكل علم أو فن يربط النتائج بالأسباب. فهل يبقى في هذا المجتمع دين أو إيمان؟ ألا يحق لنا التساؤل؟
في العشوائية يتفشى الاستبداد. هو استبداد لا تفرضه سلطة، لسبب بسيط هو أنها لا تستطيع ذلك. هو استبداد يفرضه المجتمع. يفرضه الناس الذين ليس لديهم سلطة شرعية. لكنهم يستمدون شرعيتهم من زعيم القطيع، ورغباته المتناقضة، وأوامره التي تصير بمثابة أحكام القضاء. يصير القضاء مضطراً للخضوع؛ يخضع لغلبة الطوائف وأحكامها العشوائية. حركات الاحتجاج في الشارع ليست في مواجهة السلطة من أجل المطالبة برفع الرواتب أو تأمين الخدمات، أو غير ذلك من مصالح الناس، بل هي ضد زعيم آخر، أو ضد طائفة أخرى اعتراضاً على إهانة الرمز؛ وما أكثر الرموز التي تستحق الإهانة.
تُختصر الحياة العامة بالرموز لا بالسياسة. صارت الحياة العامة مجالاً للرموز ولعشوائيتها، ولما لا يمكن أن يُفهم أو يُدرك. عليك أن تكون في القطيع وحسب. لا يحق انتقاد كبش القطيع الآخر. هذا يدخل في مجال المحرّم. كل الدنيا محرمات، وأصحابها يكتسبون قداسة ليست منهم ولا لهم.
تراجعت السياسة. ما يتعلّق منها بالخدمات والمنافع الاجتماعية يساوي صفراً أو دون الصفر. الحالة الأمنية لا فضل فيها لأحد من الطبقة السياسة؛ بل ربما كانوا من أسباب تهديدها. التنافس على السلطة محصور بين خمسة أو ستة أباطرة طوائف. هم يعينون لوائح مغلقة. كل ذلك لأن الحوار مقطوع. والحوار هو السياسة. والسياسة هي الخروج من المجتمع المغلق، مجتمع المقدسات والمحرمات الى المجتمع المفتوح الذي تُناقش فيه كل الأمور، والذي يكون الحوار فيه دائماً، والذي يكون مشبعاً بالسخرية. السخرية وحدها تنقذنا من المأساة. السخرية هي أرفع الفنون. تستطيع أن تضع مسرحية تراجيدية مسرحها الواقع كما هو. واقعنا أسوأ من مسرح تراجيدي. نحتاج الى السخرية، واللهو، والتفلّت من الانضباط الحزين.
الهويات الصغرى (وربما الكبرى) تُذرر المجتمع. تحرمه، تحوله الى رماد. في سياسات الهوية ليس هناك إلا الأنا. الأنا المستأثرة والتي تريد المزيد. الأنانية لا تتعلّق بالفرد والمواطن، بل بإخضاع الفرد لغير المواطنة؛ إخضاعه للطائفة أو القبيلة أو الإثنية. يحسب نفسه أنه يشارك في الجماعة. وهو لا يشارك إلا في عبوديته وانسياقه وراء من كان السبب في إخضاعه وعبوديته. تستقوي الأنا بالجماعة. لكنها تستقوي على حالها. تمنع عن نفسها السير في درب الحرية والانعتاق. وتحكم على نفسها بالخضوع والذل. ليست الأنا التي تفكّر وتستوعب الكون في ذاتها؛ هي الأنا المستوعبة في وهم الطائفة. تتوهم أنها تشارك في الوجود. ولا تدري أنها تشارك في العدم وحده، في حكم الإعدام على نفسها. لا تطالب بحق لها. تهدر حقوقها من أجل غيرها. لا توجد من أجل ذاتها. توجد من أجل غيرها، وتقدس هذا الغير. تتوهم أنها تحقق ذاتها في الجماعة، وتدفن الجماعة معها. الجماعة الحقة هي مجموع الأفراد؛ الأفراد الموجودون لذاتهم وبذاتهم. الأفراد الذين لديهم الحد الأدنى من الاعتداد بالنفس. أفراد القطيع لا يوجودون بذاتهم بل من أجل الكبش الذي يقودهم.
في سياسات الهوية تحسب أن “هو” تعني “أنت”. التعبير واضح جداً. هو تعني “هو” أي غير أنت. لا يراد لك أن تعرف هذا الغير. إذا كان الغير عدواً لا يراد لك أن تعرف عدوك. عندما تعرف عدوك تعرف من أنت. لا تعرف أن هذا الغير الذي تراه عيناك ألاف المرات في اليوم. هو أقرب إليك من حبل الوريد. هو ورقة العملة الوطنية، وهو زينة العلم الوطني الذي تقف إجلالاً له. لا يُراد لك أن تعرف أن هذا الرمز المتغلغل في أعماقك صادره الغير؛ صادره من يملك عبوديتك؛ من يملك حق الرقبة على روحك. ومن يملك حق الرقبة هو صاحب الاستثمار. أنت استثمار لغيرك. أنت عملة وطنية تفني عمرك في سبيل اقتنائها (لأنك من دونها لا تستطيع العيش). أنت زينة العلم الذي تخشع له (لأنك من دونه تكون فاقد الكرامة)؛ أنت الذي لا يوجد غيرك؛ أنت الذي جردت من جوهر وجودك؛ جُردت من كل ما هو نبيل ومحترم أو يستحق النبالة والاحترام كي تصبح نذلاً راكعاً على أقدام الهوية. الهوية تعني “هو” ولا تعني أنت. عندما تفرّغ مما أنت عليه، مما تريد أن تكون، مما يجب أن تكون، لا يبقى منك إلا الغلاف، إلا الجوف الذي يصادره الغير. والغير ليس هوية أخرى، ولا قومية أخرى، ولا مذهباً آخر، ولا…، ولا…. الغير طبقة أخرى ضمن الطائفة أو الهوية. تقبع فيك وخارجك ولا تستطيع التخلّص منها. هي منك ولك، وهي ضدك. هي فناؤك: هي فناؤك في العبودية، في ما تريد أن تكون ولا تستطيعه. تستطيع أن تكون عبد الهوية، لكنك لا تستطيع أن تكون عبد الشعب. تعبير الشعب يتطلّب الحوار، تعبير “أهلنا” يتطلّب الخضوع.
الشعب تعبير عن المشاركة. الشعب جماعة تستطيع المشاركة فيها، وربما تُحرم من ذلك. لكن الإمكانية مفتوحة على الإيجاب. أنت حر في ذلك، أو تفقد حريتك. الهوية إطار لا تستطيع الإفلات منه. هي ضرورة تحكمك وتملي عليك سلوكك حتى ولو كان مخالفاً لضميرك. الهوية سلب الضمير. الضمير وحده هو أنت. ما عدا الضمير هو ما تخضع له. هو ما تكون له عبداً. الفارق بين الأهل والشعب هو بين ما يفرض عليك بحكم القرابة، والجينولوجيا، والأصالة، والماضي الذي يفترض أن تكون امتداداً له. والشعب هو الناس والحاضر والتاريخ الذي تصنعه، إذا أردت أن تصنع تاريخاً. الماضي يُصنع لك؛ التاريخ أنت تصنعه. لأن التاريخ هو امتداد الماضي في المستقبل بما لم يكن ماضياً، هو التغيير. في الهوية ثبات وجمود. التاريخ هو ما لم يحدث بعد. الماضي هو ما حدث وانقضى. مع “أهلنا” أنت لا تختار بل يختارك الماضي. مع شعبنا أنت تختار وتقرر المستقبل. مع الهوية أنت ماض لم يبق له إلا استقبال التفسيرات من خارجك. مع الشعب أنت تختار الفعل وتفسيراته.
مع مقولة أهلنا هنا وهناك، هويتنا هنا وهناك، أصبحنا غير ما نحن عليه وغير ما نريد.