انتخابات غير ديمقراطية
بعد أيام يقترع اللبنانيون. يحسبون أنهم يختارون من يمثلهم. هم يعرفون ان اختيار من يمثلهم جرى مسبقاً، وهم سوف يختارون بين من انتقاه أباطرة الطوائف لهم.
أباطرة الطوائف محنكون في السياسة التي هي فعلاً لا سياسة، بالأحرى سياسة أفرغت من مضمونها. ديمقراطية أفرغت من مضمونها التحرري. من يقترع في هذه الانتخابات يعلن انضواءه تحت عباءة الزعيم الذي اختار اللائحة. يعلن عبوديته وخضوعه وارتهانه. القانون كما صيغ واتفق عليه بين أباطرة الطوائف مهين ومذل. ومن ينتخب يهين نفسه ويذلها، ويوافق أباطرة الطوائف على غيّهم.
يعلم اللبنانيون جميعاً أن اللوائح مغلقة، وفي كل لائحة خانة لإشارة صوت تفضيلي. إذا كان للناخب صوت تفضيلي بين عدة مرشحين، فإنه من ناحية أخرى لا يستطيع التشكيل بين المرشحين، ولا يستطيع تشكيل اللائحة التي يريد، ومن مرشحين تهواهم نفسه. متى أدلى بالصوت التفضيلي لمرشح على لائحة، فإن الناخب مجبور على انتخاب اللائحة كلها حتى ولو كانت تحوي أسماء من لا يروقون له. فاللوائح مغلقة ولا يجوز، قانوناً، التلاعب بها، وإلا اعتبرت لاغية. قانون يقيّد اختيار الناخب، ويحدّ من حريته في اختيار مرشحيه. هو أشبه بالاستفتاء.
لكل طائفة امبراطور أو إثنان أو أكثر. على المرشح إذا أراد ضم اسمه الى لائحة ما أن يتكلم الى هؤلاء الأباطرة لا الى الناس. يخاطب الزعماء لا العامة. لا يستطيع هؤلاء العامة الفهم، أو هم لا يستحقون أن يخاطبهم المرشح. هو يخاطب أسيادهم. وهؤلاء يقررون من يدخل جنة المرشحين المتاح انتخابهم. بالتالي تجري الحملات الانتخابية من دون كلمة واحدة في السياسة، ومن دون كلمة واحدة في شؤون المجتمع. ليس على المرشح أن يقول شيئاً. كل ما عليه هو أن يكون مقرباً من امبراطور الطائفة. إذا كان مهرجاً، ورأى فيه الامبراطور “هضمنة” تقربه من قلبه، فإن ذلك يجعله متاحاً.
يقال أن النسبية تفترض لوائح مغلقة. هذا في بلدان السياسة. أما في بلدان أفرغت من السياسة، فإن الأباطرة ليسوا مضطرين لأن يقولوا شيئاً ولا أن يعلنوا برامجهم السياسية. ولا أن يكون لديهم سياسات من أي نوع. كل امبراطور يمتلك الطائفة ويبيعها لمن يشتري.
الطائفة تُوّرث. كم امبراطور أورث أبنه الزعامة كما تُوّرث الأرض أو غيرها من متاع الدنيا. الشعب اللبناني عموماً ليس معجباً بكفاءات الأباء، وسيكون أقل إعجاباً بكفاءات الأبناء. هم يأكلون الحصرم وأبناء الشعب يضرسون. رأينا أبناء الأباطرة على شاشات التلفزيون. نسبة النفاق عالية. درّبهم الأباء على ذلك. من منهم يتمتّع بحس عالٍ من السخرية سيكون أكثر كفاءة في إذلال الناس.
هؤلاء الأبناء سيكونون أكثر حقداً على الطوائف الأخرى ممّا كان عليه آباؤهم. الطوائف ترتكز على هذا الحقد. الأباء أكثر براعة في تزويق الكلام. الأبناء لم يكتسبوا ما يكفي من الخبرة لتدوير الزوايا، وجعل الاتيكيت الطائفي (التهذيب الطائفي ونفاقه) جزءاً من خطابهم. ستكون النتيجة اقتراباً أكبر من الغريزة، أو ما يشبه الغريزة الطائفية.
المرشحون عموماً سوف يخوض الحلفاء منهم معركة الصوت التفضيلي، في وقت تخوض اللوائح معركة الحاصل الانتخابي. سيكون الحلفاء في معارك كما اللوائح في معارك وحروب. على الأرجح، لن يتمكن الأباطرة من تطويع وتدجين الناخبين إلا بالمزيد من التحريض الطائفي. سوف نصل الى يوم الانتخابات والنفوس معبّأة، والكؤوس مليئة بالأحقاد. سوف نشرب كؤوس الأحقاد حتى الثمالة. وما يتبع التصويت أكثر مدعاة للقلق…
تأليف اللوائح يلغي السياسة. معارك الصوت التفضيلي ستكون بين الحليف والحليف، حيث يخون الواحد الآخر ويتآمر عليه. معركة الحاصل الانتخابي سوف تكون مجالاً أكبر للنفاق والخداع وإفراغ اللوائح من أي برنامج عمل. يجتمع في اللوائح الأعداء والأخصام. وهؤلاء سوف تكون مهمة كل واحد منهم اقصاء الآخرين من الأخصام والحلفاء.
بعد الإدلاء بالأصوات، ستكون مهمة اللجان الانتخابية، التي تعينها السلطة الحاكمة، فرز الأصوات وعدّها، وإعادة عدّها حسب ما حازت كل لائحة، وتدوين الأرقام، وإعطاء كل مرشح ما يستحقه وما لا يستحقه. والأرجح أنه سيفوز عدد كبير ممن حازوا عدداً أقل من الأصوات (وكل ذلك حسب القانون). لا أحد يضمن أن لا يحتجّ الذين كان الحاصل لديهم، كما الصوت التفضيلي أكثر من غيرهم وأُسقطوا. ولا شيء يمنع أن لا تتطوّر الاحتجاجات الى استخدام العنف. تكون النتيجة ليس انتخابات ديمقراطية لاختيار الأكثر تمثيلاً، بل مشروعاً لحرب أهلية. الأسوأ سيكون استخدام العنف في الاحتجاجات.
هناك شبق للسلطة عند من استجد أمره فيها. وهناك تمسّك بالسلطة عند من تمرّس فيها سنين طويلة. المعلن هو انتخابات ديمقراطية بين الأكثر تمثيلاً. المضمر هو برامج طائفية أكثر هولاً مما شهدناه خلال الحرب الأهلية. السادية التي تمارس على الناس من أجل الانضواء في الطوائف وتحت راية الأباطرة، هذه السادية غير مسبوقة في تاريخ لبنان. في الحوارات الدائرة بين الأباطرة ومندوبيهم منسوب عال من فقدان ملكة التهذيب. ناهيك عن فقدان السياسة وضروراتها. السادية التي تمارس على الناخبين، مع الشحن الطائفي المرير، تحوّل هؤلاء الى كائنات ضارية. انتخابات لتظهير أسوأ ما في الإنسان من وحشية ورثها عن العصور الحجرية وما قبلها. هكذا لا يتطوّر الإنسان وصولاً الى التهذيب وتعاطي السياسة، بل يتراجع الى مرحلة العصابات حيث الجميع يحارب الجميع. وهناك شك في أن الإنسان القديم كان أكثر وحشية مما سوف ينتج عن هذه الانتخابات. هي فرصة لإظهار البراعة في الوحشية. وهناك وسائل تكنولوجيّة متقدمة للممارسة الوحشية. اهمها وسائل الاتصال (الانفصال) الاجتماعي.
الأخطار الاجتماعية كثيرة. والأخطر هي الحرب الإضافية من الخارج. سوف نفرغ من الانتخابات والمجتمع أشلاء، وأقل قدرة على مواجهة الأخطار الداخلية والخارجية. تتصرّف الطبقة السياسية وكأن الأمر لا يعنيها. لم تقدم لنا حواراً واحداً عن التضامن من أجل مواجهة الأخطار. هم كمن يفتح أبواب البلد على مصراعيه كي يمعن أشرار الداخل والخارج في تمزيقه والاستيلاء عليه.
لا أحد من الأباطرة ومرشحيهم إلا وله ارتباطات خارجية. الانتخابات شأن داخلي لكن التأثيرات فيها وفي نتائجها تتقرَّر في الخارج. عملياً السيادة مفقودة. وسيكون الأمر أشد وأدهى بعد الانتخابات.
ستكون هناك مؤتمرات في أوروبا لدعم لبنان، وربما لتقديم المساعدات المالية. لكن لا أحد يستطيع إصلاح ما خرّبناه بأيدينا، وعن سابق تصوّر وتصميم.
القانون مهين لمن ينتخب. العملية التي تقود الى صناديق الاقتراع أكثر إهانة للناس. الكريم من يكتم إهانته. يكون ذلك بالامتناع عن التصويت.