مجتمع الدمى المتحركة
قيل إن الإنسان حيوان ناطق. وقيل إنه حيوان سياسي. القولان يفسّر واحدهما الآخر. النطق للتواصل. والسياسة هي التواصل بجميع أنواعه. السياسة والنطق، أي اللغة، وجهان لعملة واحدة. لا ينطق الإنسان إذا كان وحده في صحراء مدقعة أو في غابة موحشة، أو في أي مكان آخر. ينطق فقط لقول “أه” من الألم. في الوحشة، يتوجّع ويعبّر عن وجعه. يريد أن يقول شيئاً؛ لكن القول هنا ليس للتواصل، بل للتعبير عن النفس الموجوعة والمتألمة.
نظامنا الاجتماعي (وهو نظام رأسمالي، ونقول ذلك للتذكير فقط) جعل غاية وجود الإنسان، في بلادنا والعالم، امتلاك شيء أو أشياء ليست في جوهر الوجود البشري. جعل ما ليس بشرياً غاية للوجود الإنساني. كثر عدد البشر. وتضاعفت الرغبات؛ صارت الرغبات لكل فرد أكثر بكثير، بل أضعاف أضعاف، ما كانت عليه حين كانت البشرية أقلّ مما هي في التعداد وفي التقدم. تضاعفت البشرية عدداً أضعاف ما كانت عليه في بداية القرن العشرين، لكن الرغبات تضاعفت عدة مرات أكثر من تضاعف عدد البشرية.
الغابة الموحشة، وهي مليئة بالنباتات الخضراء والأساطير والخرافات، منها طرازان، هي في آن معا صحراء مدقعة. مع تزايد الإنتاج، تتضاعف الرغبات، بما يوازي البشر عدة أضعاف. يصير الاستهلاك ضرورياً، كي يجد الإنتاج مبرراً. على سبيل المثال، يبلغ عدد السيارات والهواتف الذكية أضعاف أضعاف ما كان عليه الأمر منذ عقود قليلة. قس على ذلك نمو توافر السلع الأخرى. لم يبق للإنسان إلا أن يعمل كي يستهلك. هو ينتج لكي يستهلك. الأساس في النظام هو الاستهلاك لا الإنتاج. يبقى الإنتاج ضرورياً، وإلا كان الاستهلاك مستحيلاً. لكن الإنتاج هو للعبيد، عبيد العمل والاستهلاك والنهب، والاستهلاك هو مجال لحرية موهومة. يظن الإنسان أنه يختار ما يستهلك. هو يستهلك ما يحصل إنتاجه. يمكن الاختيار بين هذه الماركة أو تلك، لكن بما عدا ضروريات الغذاء، يكون الاستهلاك حسب الموضة. الموضة يخلقها أرباب الإنتاج. وهؤلاء هم الذين يقررون الرغبات. الموضة هي باختصار تقرير المنتجات التي على الإنسان استهلاكها.
في الغابة لا يرى المرء إلا نفسه. في الصحراء لا يرى المرء إلا نفسه. أمام شاشة التلفزيون ينفرد المرء بنفسه. مع الهاتف الذكي ينفرد المرء بنفسه. في السيارة يقود السائق في معظم الأحيان منفرداً. إذا أراد الكلام أو النطق، يشرد ذهنه عن الطريق، وتكون النتيجة وخيمة.
هي صحراء الفرد المعزول، غير الناطق. هي الرغبات. الاستهلاك سلخ الرغبات عن العقل. يدور العقل حول نفسه. يكاد يفقد ملكة التفكير. يعيش الإنسان وحيداً. لا يستطيع التواصل مع الآخرين ولا تقليدهم. يجري التفكير في مكان آخر. تُملى على الفرد الموضة. يتحوّل الى فرد في القطيع حيث يحتاج إلى قليل من الكلام والحوار. يستخدم كلمات قليلة، معظمها يتألف من مقطع واحد. عالم ما بعد الحداثة هو عالم البداوة من نوع آخر. تصرّ الرأسمالية، بإخضاعها الإنتاج للاستهلاك، على إرجاع الإنسان الى الوراء، والى إفراغ فكرة التقدم من محتواها.
نفرح بما لدينا، ولو كنا قليلي المال؛ نريد أن نواكب العصر ونسير على الموضة. نناقش تفاصيلها أكثر مما نناقش القضايا الوطنية أو حتى قضية الحرب، التي يمكن أن تقع في وقت قريب بين إسرائيل وإيران. منذ أسايع اجتمع الرؤساء: التركي، والإيراني، والروسي، لتقرير مصير سوريا من دون وجود من يمثلها. يحدث ذلك ونحن غارقون في حروب القطعان. الموضة تحوّل المجتمع الى قطعان. القطيع الذي تشكّل بالطائفية أو الإثنية، وتراجع عقله في صحراء الرغبات وسلع النيوليبرالية. هذا القطيع ليس لديه ما يقول عن القضايا الكبرى. قطيع القومية العربية كان لديه عبد الناصر، وكان يهتم ويناقش القضايا الوطنية والعالمية. قطيع النيوليبرالية قضاياه صغيرة، وقادته صغار. مجموعة حكام أصفار. كأنّ الاستبداد لا يكفي. أضاف الطاغية النيوليبرالية فأفرغ المجتمع من إمكانية الاهتمام بنفسه. حروبنا الأهلية هي حروب رغبات، انطبعات عن الذات وعن العدو الداخلي، ولا علاقة لها بالخارج، وحتى إسرائيل. يخشى أن تصير إسرائيل أمراً داخلياً.
في صحراء الرغبات يكون الموضوع موجوداً، بمقدار ما يكون وهمياً. ومن الصعب أن يبقى الموضوع خارجياً. يصير هو نفسه جزءاً من الذات. تزول الفروق بين الذات وما هو خارجها، تحسب أن كل ما هو خارجها، كل ما هو موضوعي، اعتقاداً داخلياً. العقيدة هي ما نتوهم حول الطبيعة والكون وما هو خارج النفس الإنسانية. العقيدة هي الكون والوجود وخارج النفس، كما يجب أن يكون كل من هؤلاء. حين تنتج، تضطر لأن تتعامل مع الكون، والوجود، وخارج النفس بموضوعية. تضطر الذات الى التواضع. حين تستهلك تكون حواصل كل هذه الأشياء امتداداً لرغباتك. يصير الكون والوجود وما هو خارج النفس امتداداً للرغبات. نحسب أن الرغبات تخلقها، أي تخلق الأشياء. لا ندري أن الميل الى الاستهلاك هو الرغبة الوحيدة، وأنه نتيجة أو حصيلة الإنتاج كما تريد أن تسوّقه آلة الرأسمال والدعاية والإعلان؛ هي آلة جهنمية طاغية.
يتفكك الإنسان. يصير معزولاً. يدور حول نفسه. الكلام بينه وبين نفسه أكثر مما بينه وبين الآخرين. يصير حيواناً غير ناطق، وغير مفكّر، وغير سياسي. حيوان له رغبات وحسب. يعلو منسوب الشعبوية وصولاً الى الفاشية في كل أنحاء العالم. الإنسان المتلقّي سواء في المجال العام أو في منزله (المجال الخاص). لم يعد المجال العام فقط للتداول. حلّ مكانه “الفوروم” حيث يتعاقب “الخطباء” على المنصّة. حلّت الخطابة مكان الحوار، وتحوّل التواصل الى توجيه أوامر. أصبح التواصل الاجتماعي شكلا من أشكال رسائل التويتر، والغوغل، والواتسأب، وانستغرام، وغيرها. يتلقى المعلومات التي لا تتراكم في دماغه بل في الآلة الذكية؛ ذكاؤها يحل محل ذكائه. يفقد ذكاءه. المعلومات التي عنده يعجز عن تمييز صحتها. المعلومات الكاذبة والمعلومات الصحيحة متساوية في حقيقتها بالنسبة له. حتى المعلومات تصير غير مهمة. الرغبات وحدها هي المهمة. الآراء المسبقة في النفس تتلقى ما يناسبها من معلومات لتؤكد وجهات نظر مسبقة. تُلغى السياسة أي القدرة على الحوار والنقاش والتسوية. تتراجع ملكة التفكير. تصير مهمة العقل تبرير ما في النفس. يسود الجهل. تحتل الديماغوجيا مكانة سامية. تتقدم المهرجانات، حيث المتكلمون واحد أو بضعة أشخاص، على المؤتمرات. ربما تقتصر على النخب التقنية في غرف مغلقة. مهرجانات وحسب. دور السامع فيها هو التلقي وحسب. كلام الديماغوجيا أشبه بالأوامر. نظام ديمقراطي بمقدار ما يكون هناك تعداد للناخبين وحسب. الناخبون ليست لديهم برامج سياسية مقدمة إليهم. يقترعون للأشخاص الأكثر اتصالاً بوسائل الاتصال الاجتماعي. الانتخابات ملغومة سلفاً. المرشحون يختارهم أباطرة المال أو الطوائف. التنافس بينهم هو فقط تنافس على الأصوات. لا معنى للأصوات سوى أنها تعبّر عن غرائز (علاقات أولية).
يحرز اليمين الأقصى نتائج متزايدة في الانتخابات. تتصاعد الفاشية؛ حرب الجمارك، والحرب التجارية، والعنصرية ضد المهاجرين، والمشاعر المضمرة ضد الغير من الشعوب والطوائف تحرّك المشاعر أكثر مما مضى. طبقة سياسية تصفّق للرأسمالية والنيوليبرالية. يختار الرأسماليون من شاؤوا للترشّح أو يدخلون هم ساحة الانتخابات. تتفرّغ الديمقراطية من محتواها الليبرالي وحتى الإنساني. يصير الإنسان حيواناً غير ناطق. النطق يبقى لكنه يقتصر على بعض التعابير. تتسطّح اللغة. تتناسب الجمل القصيرة مع خطاب الأوامر. الأوامر جمل قصيرة. إفعل كذا أو لا تفعل. إفعل كذا فهو حلال. لا تفعل كذا فهو حرام. تسود لغة المقدّس. الجهل المقدّس. الجهل المقدّس هو دين هذا العصر.