النظام العالمي وتبعاته الإنسانية والعربية، الفقر وتدمير الكرامة
“بنكان” (مصرفان) يعملان على تدمير أغلى ما عند الإنسان؛ “البنك” المصرفي يدمر الكرامة، و”بنك” المعلومات يدمر العقل ويفكك المعنى. ربما قيل إن هذا الموقف يعبّر عن رجعية ضد التقدم التقني. ذلك ليس مجانباً للصواب. ليس كل ما جاء به التقدم مفيداً للإنسان. بعض مخترعات الإنسان ربما أدى الى دماره، مثل السلاح النووي.
عندما يمتلك أقل من 1% من البشرية أكثر من نصف ودائع المصارف، وعندما لا يملك أكثر من نصف السكان في الأرض شيئاً على الاطلاق، فإن ذلك سيكون له أثر كبير على العلاقات الانسانية. هذه الجموع الغفيرة الجائعة، أو على حافة الجوع، تبحث عما تسد به رمقها، وهي لا تستطيع العمل لأنها لا تجد وظيفة. وإذا وجدت وظيفة فإن مدخولها سيكون موازياً، أو أقل، لما يكفي لسد الرمق. كتل بشرية كبرى تهيم على وجهها بين الريف والمدينة. يقال الكثير عن حجم المدن وعددها وما جاوز منها عشرين مليون ساكن. تحليلات كثيرة حول مدى اكتساب النازحين الى المدن عقلية المدن (فكأن عقلية المدن أرقى من الريف، وكأن استقبال المدن لهم ليس فعل ضرورة بل استقبالا لناس يُراد تمدينهم ورفع مستواهم الحضاري). هذه الجحافل لا تكتسب من الحضارة (وعن أي حضارة بورجوازية نتكلّم). تكتسب فقط العبودية. هم أحرار في أين يروحون وأين يختبئون، لكنهم عبيد الضرورة البيولوجية؛ الأرجح أنهم يسكنون عند أقاربهم من الريف أو قربهم، وأنهم يفتشون في أكوام القمامة (الزبالة) لايجاد شيء يأكلونه. لا يعيشون على الفتات. فالفتات للخدم في منازل الطبقات العليا. القمامة لهؤلاء العبيد الأحرار. أحرار في البحث، وعبيد الضرورة البشرية الغذائية. بعضهم يسكن القبور. وبعضهن بائعات هوى. أكثر من 750 مليون نسمة في الهند ليس لديهم أمكنة لقضاء الحاجة. يتنظرون الليل كي يذهبوا جماعات خوفاً من الاغتصاب. الاغتصاب كثير الحدوث. القوانين الذكورية نادراً ما تُعاقب على ذلك. هن يخفن من الكلام خوفاً من الفضيحة.
كاد الفقر يكون مذلة. الفقر الشديد ذل مطلق. مع الفقر وبسببه تتكسّر الروح. هو يفعل أي شيء لينال بعضاً من الحطام. السادة يعطون بعض الإحسان. النظام لا يعطي شيئاً. هم عبء على النظام. الخلاص منهم مستحيل. يُتركون للعيش كما هم. يعملون ببيع بعض الممنوعات أحياناً. لا مكان لهم مع الكبار. هؤلاء الكبار يهرّبون ويبيضون العملة، ويتاجرون بالأطفال والمهاجرين. يُقال أن تجارة الممنوعات تبلغ نصف الاقتصاد العالمي.
هم لا يملكون إلا قوة عملهم. فعلياً، لا يملكون قوة عملهم لأنهم لا يعملون. لا تُتاح لهم فرص العمل. كثيرون منهم أوصلهم الجوع الى الوهن. فهم لا يستطيعون العمل. حتى الذين منهم يمتلكون القوة الجسدية لا يعملون لأنهم لا يمتلكون المهارة المطلوبة. مع تقدم البشرية، صارت الأكثرية لا تعمل. لا تستطيع العمل بسبب فقدان المهارات المطلوبة. معظمهم يئس من البحث عن عمل، لأن فرص العمل المتاحة لخدم في المطاعم أو عمال نظافة محدودة العدد. يستسلمون لقدرهم، وأي قدر.
في الاحصائيات الأممية، وفي احصائيات الدول، يبدو الفقر مقولة، أو صنفاً اجتماعياً. في هذه البحوث والدراسات، يحاولون أن يشرحوا لنا الفقر لا الغنى. كأن الفقراء هم المشكلة. بالطبع لا يبحثون مشكلة الأغنياء. هؤلاء ليسوا مشكلة. هذه فئة من الناس ذات وجود طبيعي وضروري، وبغير حاجة للنقاش. الفقراء أيضاً خارج النقاش. الفقر لا الفقراء موضوع النقاش. ما زال لدينا عيد الأب، وما زال لدينا عيد الأم، ليس عيد الأبوة، ولا عيد الأمومة. وما زال لدينا عيد العمل، الذي كان من قبل عيد العمال. عيد المقولة التي تكاد تدخل في ميتافيزيقيا علوم الاجتماع. لا عيد العمال والفقراء الخارجين من المقولة الى أبحاث الأنثروبولوجيين.
الفقر بند في جداول التراتب الاجتماعي لكل مجتمع. يزيد الرقم المناط بهذه المقولة مع تقدم المجتمع أو تأخره. يعتمد وجودها على الحسابات الوطنية وعلى الاعتبارات السياسية، ويمكن أن تختفي تحت ستار ما يُسمى القوة الشرائية. لكن الفقراء باقون في كل مجتمع مهما فعلت كل الاحصائيات الاجتماعية. هم قاع المجتمع، الذي يمكن أن يكبر أو يصغر حسب ظروف المجتمع، وتقديماته الاجتماعية. لكنهم جزء من المجتمع، جزء مهم مهما بلغ المجتمع من التقدم، ومهما تغيرت جداول الاحصائيات وتقديرات علماء الاجتماع. الفقراء هم الذين سُلبوا الكرامة الإنسانية مهما كان وضعهم في سلم الاحصائيات الاجتماعية.
في الأدبيات الأممية والدولتية، يبدو أن الفقر هو المشكلة، وليس الثروة. فكأن الفقر يمكن أن يوجد من دون تراكم الثروة على الطرف الأخر من المجتمع. تتوارد القصص على الفضائيات وبقية وسائل الاعلام عن الأغنياء. هناك اعتزاز مضمر بكون الأغنياء على هذا القدر من الثروة. الاحصائيات حول حائزي المليارات لا الملايين وحسب تتوارد بكثرة، حتى أصبحوا هم النموذج الأعلى، البرادايم، للمجتمعات. الفقراء مساكين لا يستحقون الذكر إلا في برامج تستدعي الشفقة على هؤلاء. نظام العالم المادي والثقافي ضدهم. كرامتهم مسلوبة أينما كانوا.
الفقر نقيض الثروة في جميع الأحوال، لا يحدث من دونها، هما وجهان للنظام. برامج الأمم المتحدة وغيرها تتحدث عن محو الفقر، ولا تذكر شيئاً عن محو الثروة الفاقعة؟ السؤال المهم هو: هل يمكن محو الفقر من دون خفض الثروات لدى البعض؟ سؤال لا يستحق النظر عندهم لأنه يعتبر ضد الطبيعة، طبيعة النظام الرأسمالي. الحديث هنا هو حول ردم الهوة بين الغنى المتعاظم والفقر المتكاثر.؛ والعياذ بالله عن الحديث عن إلغاء الثروات. ذلك كفر بالنظام. لكن تعديل النظام ممنوع، وممنوع الكلام فيه. كل الأجهزة الدولية والحكومية تمتنع عن البحث في هذا الأمر. الفقر سلب للكرامة البشرية؛ هو انسلاخ الوجود البشري عن أسبابه.
الفقر ليس كذلك وحسب. هو نوع من أنواع اليأس من الوجود البشري. هو فقدان المعنى بعد تفكيكه الى أجزاء. لا يستطيع المرء الانتقال من واحدة منها إلا بعد أن يضيّع ما بدأ منه.
الذل الذي يخضع له معظم البشرية، والمقرون بالحرمان من أبسط مقومات الحياة، سوف يبعث على حركات احتجاجية. في غياب حركات حقيقية أو ما يشابهها، سوف يلجأ الى احتجاجات تستند علي أشكال معروفة من الاحتجاج الإثني، والديني، والشعبوية، والفاشية، والنازية. ما زالت هذه الأشكال تتخفى تحت اسم اليمين المتطرّف. لكن تسمية الأشياء بأسمائها تقضي بغير ذلك. ذل الحاجة والأجور المتدنية التي تبقي العاملين على حافة المجاعة في أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية من دون إمكانية للنضال ضد هذا الظلم والاستغلال، بل والامبريالية والاستعمار، ومن دون مجال للنضال دفاعاً عن النفس. نُقلت الصناعات الغربية الى أسيا للاستفادة من رخص اليد العاملة، بالإضافة الى أن هذه اليد العاملة ممنوعة من النضال من أجل حقوقها. جحافل من البشر يدخلون في سوق العمل لخدمة الرأسمال الغربي، تقدمهم حكوماتهم كما يقدم الذباحون البقر على شريط الذبح الآلي. الحقيقة هي ان قطعانا من البشر يُقدمون الى سوق العمل. قطعان لا يلزمون إلا للعمل في المعامل الغربية الموضوعة أو المنشأة في شرق أسيا. يُمنع على هذه القطعان تشكيل النقابات والأحزاب للدفاع عن نفسها. تلجأ القطعان للدين والهوية الإثنية لكي تعبّر عن حاجاتها. أشكال التعبير عن نفسها تبدو أكثر ما تبدو في الأصولية الدينية وما شابهها. الأصولية الدينية شكل من أشكال النضال ضد النظام العالمي. هي بالطبع شكل رجعي لكنها لا تجد غيره.فتتبع هذه الطريق. الحرب العالمية على الإرهاب وعلى الفساد هي حرب تشنها المؤسسة الحاكمة ضد نفسها، وضد الظروف التي أوجدتها لخلق هذه الحالات الايديولوجية عند الناس. إرهاب الدولة هو الإرهاب الأشد والأدهى في عالمنا المعاصر. فساد الحكومات الغربية هو الفساد الأكبر. بالطبع إرهاب القوى المحلية وفسادها لا يُقاسان بمقاييس تنطبق على حكومات وشركات الغرب والامبريالية. دول وشركات غربية تريد إسكات المعارضة في بقية أنحاء العالم. هي التي أثارت الدين ضد احتلال الاتحاد السوفياتي لأفغانستان. شعوبنا تدفع الثمن. الإرهاب تاريخياً من عمل الدولة. نشرته وشرعنته. أما إرهاب الأفراد والجماعات المنظمة فهو الذي صار غير شرعي. يُضاف الى ذلك أن الجريمة ذاتها التي تُرتكب في بلد غربي تكون إرهابية عندما يقوم بها المسلمون أو عرب سمر الوجوه، وتكون جرائم عادية عندما يقوم بها أوروبيون أو أميركيون من أصول بيضاء.
في إيام الليبرالية كان الصراع الطبقي هو الأساس. في أيام الليبرالية الجديدة، صار الإرهاب الديني هو الأساس. في الحالتين إرهاب الدولة هو الأساس. غيّرت الرأسمالية اتجاهها. لم يعد يلزمها شعب أو شعوب تتداول في السياسة. صار يلزمها قطعان تساق الى حيث إنتاج أعلى مستويات فائض القيمة بأدنى الأجور من دون حركات احتجاج. فانتقلت هذه الجموع من الصراع الى إرهاب أخذ أشكالاً دينية وإثنية.
إذا كان رب النيوليبرالية هو المال، وهي الذي يملك السلطة الحقيقية في العالم، فإن رب الإرهابيين الأفراد، والجماعات الإرهابية هو في السماء. الحرب غير متكافئة على الأرض، لكنها ستكون أكثر تكافؤا في السماء. لذلك فإن لكل من الفريقين أساليبه في الصراع. لا شك أن رب النيوليبرالية على الأرض سوف ينتصر، وسوف تكون له قواعد في كل مكان.