النظام العالمي وتداعياته الإنسانية والعربية – مركزية المنطقة العربية
تجتمع في منطقتنا العربية جيوش الأرض: جيوش الدول الكبرى والإقليمية. كأن في الأمر حرباً عالمية. كأن هذه الحرب متركزة في منطقتنا من دون بقاع العالم الأخرى. يشعر المرء أننا مستهدفون. بعضنا يعتبر أننا نستحق ذلك. قليل منا يحتج على ذلك. الجيوش موجودة بطلب من حكامنا أو برضاهم. نخوض حروباً أهلية. كل فريق يريد أن يدعمه فريق خارجي. بعضنا يقول إننا نستحق ذلك. كثر منا يتوقون للرجوع الى مرحلة الاستعمار، ما قبل التحرر الوطني، علّ ذلك يجلب الاستقرار. صارت السلامة الجسدية هي الأمل الوحيد. السوية العقلية في خبر كان. أمعن الحكام في الاستبداد والفساد حتى لم يعودوا يُطاقون، أي حاكم غيرهم أفضل منهم.
يتساءل البعض: لماذا هذه الحرب العالمية. الحرب هي عادة للاخضاع أو للإبادة، أو على الأقل الشرذمة، دولة دولة، حتى لا يبقى من يقول عن نفسه إنه عربي. كل الأجوبة معقولة. البعض يستسيغ كل جواب. في جميع الأحوال، لا يشرفنا أن بلداناً محتلة (مباشرة أو بالنفوذ)، لا يشرفنا أننا نخضع. لا يشرفنا أننا نُباد كمجتمع أو كأمة. لا يشرفنا أن نعامل كالنعاج. بعد أكثر من نصف قرن على الاستقلال، لم نتقدم. لم نبنِ مجتمعات متينة متماسكة. ليس لدينا إنتاج زراعي أو صناعي يذكر. لدينا كعرب نفط يوزع ريعه. الريع يوزع بكميات كبرى في مراكز الاستخراج. يقدم بعضه لبلدان عربية أخرى كمساعدات، أو يُسمح لمواطني هذه البلدان بالسفر الى بلدان الإنتاج النفطي للعمل. العمل هناك يلزمه كفيل. العمل مع الارتباط بكفيل عملياً هو درجة أدنى من الاستعباد، لكنه في كل الأحوال ربط مصير الوافد بالكفيل.
الثمن كبير. ثمن ماذا؟ ماذا فعلنا كي ندفع هذا الثمن من الحروب الأهلية، بما فيها القتل والخراب والهجرة والتهجير والتعذيب، وغير ذلك مما يقال أو لا يقال؟ هل هو وجودنا العربي؟ وقد كان مستكينا. وكان السكوت عن الاستبداد ومسلتزماته من التبعية للخارج والقمع في الداخل؛ كان السكوت في سبيل الاستقرار والسلامة؟ أو هو الجرم الكبير الذي ارتكبته الشعوب العربية في عام 2010-2011، ابتداءً من تونس ثم مصر ثم جميع الأقطار العربية تقريباً؟ الناس فارقوا الاستكانة. فارقوا الخنوع والخضوع. نزلوا الى ميدان التحرير. قالوا رأيهم. قالوا أن السياسة تبدأ منهم. تبدأ السياسة لديهم بإسقاط النظام. “الشعب يريد إسقاط النظام”. قيل للحاكم العربي ” ارحل، ارحل”. ليس صحيحاً أنه لم يكن لديهم شيئ يقولونه. عيش، كرامة، عدالة اجتماعية. هذا ليس بالقليل. هذا جوهر كل برنامج اجتماعي. عندما بدأوا يهتفون يسقط يسقط حكم العسكر، طفح كيل مديري العالم. طفح كيل أعداء هذه المجتمعات. اكتشفوا أن للعرب إرادة، وأن الإرادة تبغي إنهاء عهد الاستبداد والانتقال الى عهد الحرية. هذا كثير. فلتكن الثورة المضادة. ولتكن الحروب الأهلية. ولتكن الحرب الأهلية بين العسكر والدين السياسي. تتهم الشعوب العربية خطأ بالدين السياسي. الدين نعم، أما اتهامهم بالدين السياسي فهو كذب براح. الدين السياسي مرتبط في الذهن العالمي بالإرهاب. الإرهاب يتعدى الجريمة. الحكم عليه مسبق. لا محاكمة. قتل في ميدان القتال من دون محاكمة. شعوب المنطقة تُقتل في ميدان القتال. التهمة أصبحت لصيقة بهم ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. تُعاقب شعوبنا على المطالبة بالحرية بتهمة الإرهاب. هي مصدر الإرهاب، دينها، ثقافتها، ووجودها. كل ذلك بيئة حاضنة. الحرب على الإرهاب إنقاذ للعالم. الرجل الأبيض الذي تجوب جيوشه في بلادنا يرى سكان المنطقة خطراً على العالم. نقول الرجل الأبيض ونحتار. يختلف الأميركيون والروس في كل أنحاء العالم إلا أنهم يتفقون في بلادنا. إسرائيل تضحك. الصين مع الرجل الأبيض. لديها كثير من أصحاب هذا الدين المقلق. يجتمع الرؤوساء الثلاثة من روسيا ومن السادة المحليين، روحاني وأردوغان، مرة بعد مرة لتقرير مصير بلد عربي، مع عدم حضور رئيسه. في سايكس بيكو قرروا مصير المنطقة في الخارج. اليوم يقرر مصير المنطقة في الخارج. في الحالتين حرب عالمية. في هذه الحالة تُضاف حروب أهلية. المحليون للحرب الأهلية، حتى ولو كانوا رؤساء بلادهم. عالمياً يقرر الرجل الأبيض ويبلغ سادة المنطقة. الرجل الأبيض هو من يحكم بلاد الروس والولايات المتحدة. أوروبا للمساعدات الإنسانية التي تجعل الحرب الأهلية أبدية. الرؤساء الاقليميون للأمور التنفيذية. واحد منهم في حلف الأطلسي. الثاني له دور الشيطان الأكبر بنظر الغرب وجميع الرجال البيض. الخلافات معقدة. الصراعات مستمرة. وقودها شعوب الأرض.
هل يعلم السادة الإقليميون والمحليون أن الرأسمالية نظام عالمي، وان هذا النظام بحاجة الى من يفرض وجهة نظره، والى أن يتخلّص من كل معارضة، وان كل معارضة مصير أصحابها الى العقوبة أو الإبادة؟ الشعوب بعضها يخضع بالقوة الناعمة. وسيلة سيطرة القوة الناعمة هي التويتر والفايسبوك والانستغرام، وغيرها. جزاء الخضوع هو الاستقرار ورضى الرجل الأبيض أي النظام العالمي، وما يُسمى الاستثمار في بلدان العالم الذي سُمي ثالثاً فيما سبق ان عمل سكانه بأجور تقارب حد الفقر لدى الرأسمال العالمي. وما على حكام هذا العالم الثالث إلا أن يكونوا شرطة تفرض الإستكانة على شعوبها، كي لا يطالبوا كما كان العمال يطالبون في بلدان الغرب، عندما كان هناك نقابات عمالية تفرض على النظام العالمي مطالبها وتشارك، ولو بدرجة محدودة، في إدارة النظام.
ارتكب العرب الخطيئة الكبرى: ميدان التحرير. أصبح اسم الساحات ذات حركات الاحتجاج في العالم هو الميدان. خرج العرب على النظام العالمي. ارتكبوا فعل الاحتجاج والرفض. كادت ثورتهم تحرّك العالم. الحرية واكتساب الإرادة جريمة عالمية. أكثر من ذلك، اشتعلت ثورتهم في العام 2011، في كل المنطقة العربية في وقت واحد. دلّ ذلك على وحدة مشاعر الشعوب العربية. هذه الوحدة هي ما يجب أن يختفي من الوجود، أو يُباد أصحابها. ما يجري لا يعني إبادة كل عربي. بل إبادة الفكرة بأن يكون المرء عربياً. ليس الإخضاع وحسب، بل تشتيت العربي. الاحباط، واليأس، والقنوط، والكآبة، والاعتقاد بأن المرء يجب أن يكون غير عربي. أقليات كثيرة تنشد الاستقلال وتفكيك الدول القائمة بطريقة أو بأخرى. النظر الى التاريخ وكأن العرب لم يكونوا، وأنه يستحيل وجودهم إلا في بداوة أو تخلف أو خيانة. يستمد بعضهم هذا الكلام من الكتاب المقدس.
تفترض القومية العربية وجود أمة على مدى العصور. يفضّل المحدثون التحدث عن أمة توجد مع الدولة. لا يعرف الفريقان هل الأمة أوجدت الدولة أم الدولة أوجدت الأمة؟ يوجد أمثلة للبرهان على كل من المقولتين. لكن المهم، أو الأهم، أن الأمة العربية لم تتواجد يوماً بفضل الدولة. وإذا اعتبرنا أن الدولة الأولى، وهنا يشتد اللغط الإسلامي المسيحي، أنشأها محمد، وهي كانت بداية الأمة، فإن الأمر لا يمكن أن ينتهي هنا. كان محمد ودستور المدينة تعبيراً عن أمة أو بداية لدولة؟ لن ينتهي النقاش حول ما حدث منذ 15 قرناً. تقرر الإرادة ماذا يمكن أن يكون في القرن الـ21. ليست العروبة قوة فاقدة العزم، كما يدعي البعض. وليست قوية العزم كما يتخيّل آخرون أو يحبون أن يتخيلوا؟
فقدان العزم متأت عن فقدان الدولة. ليس الحديث هنا عن دولة عربية واحدة، بل عن دولة عربية قطرية. بحدودها الراهنة. قيام أي واحدة منها كفيل بالقضاء على إسرائيل، هذا إذا اعتبرنا وجود هذه الدولة معيقاً فكرياً وايديولوجياً وثقافياً. مشكلتنا ليست فقط في إسرائيل. وليست فقط في قيام هذه الدولة. هزيمة عام 1948 كان يمكن أن تنتهي حيث بدأت. على كل حال، كل الدول العربية التي شاركت في الحرب ضد إسرائيل كانت مستعمرة (عدا لبنان وسوريا الخارجين من الاستعمار منذ مدة وجيزة).
العروبة مستهدفة، وهذا جانب من القضية. تستهدف العروبة من جانب آخر هو الدين. ليست الصهيونية أقل حظاً أو أكثر من المسيحية والإسلام. كلهم دين يريد أن يقيم دولة. لا ينفصل الدين عن الدولة إلا عندما يتوقف الدين عن أن يكون سياسياً. وهذا مناقض لجوهر الاعتقاد الديني. مناقض للدين. يصير الدين شيئاً آخر عندما يتحوّل الى مسألة فردية بين الفرد والإله. يتناقض الدين في هذا الأمر عندما يصير علاقة أفقية بين الفرد والآخر. لا مكان للدين في الساحة العامة، ساحة الحوار والسياسة. الأغورا اليونانية أساس السياسة في العالم. السياسة أساس الدولة الحديثة، لا العلمانية وحسب. إذا كانت العلمانية فصل الدين عن الدولة، فقد كان هذا هو الأمر منذ فجر التاريخ. العلمانية الحقيقية ليست نفي الدين، وهو أمر لا يمكن إلغاؤه. إزاحة الدين الى المجال الفردي وإزالته من الساحة العامة، وإزالته من الميدان، هو أساس العلمانية والحداثة والثورة واستعادة إرادة الشعوب ( إذا صحّ تعبير استعادة على أنها كانت موجودة أصلاً). الدين غير معني بشؤون الناس؛ هو معني بالعلاقة مع السماء سواء كان حاكمها إلها واحدا أو آلهة متعددة. وسواء توسطت الملائكة أو الجن. ما هو معني بشؤون الناس هو السياسة، والساحة العامة، والحوار بين الناس، والحوار حول قضايا الناس، لا حول قضايا الآلهة والجن والملائكة.
ارتكب العرب الخطيئة الكبرى بأن أعادوا للسياسة اعتبارها. السياسة بما هي الناس وحواراتهم ونقاشاتهم واختلافاتهم وبذاءاتهم وسفالتهم. السياسة هي الدولة. هي نقيض النظام. وكل نظام يلغي السياسة. هي نقيض السلطة. وكل سلطة نظام ترتكز على الاستبداد. الدولة الحديثة هي الناس. هؤلاء يمكن مصادرة آرائهم، والديمقراطية بين الناس يمكن أن تتحوّل الى أضحوكة يلعب بها ذوو الثروات. ذوو الثروة الكبار يحكمون نظام العالم؛ هذا الذي يجعل من الوطن العربي ألعوبة بكرات نار متعددة. لكن الديمقراطية، وهي أن نلجأ نحن وأياهم الى صندوق الاقتراع، هي الحل المؤقت الوحيد. نقول مؤقت لأننا لا نستطيع أن نفكّر في غيره. نعرف أن أهل السلطة سوف يلعبون بنتائج الانتخابات حتى ولو لم يحدث تزوير في الصناديق.
الحرب لا يجب أن تكون بيننا، نحن شعوب الأرض التي لا تملك شيئاً. الحرب يجب أن تكون بيننا، الذين لا يملكون شيئاً، وبين نظام الذين يملكون كل شيء تقريباً. تنازلت الرأسمالية على مدى عقود، بل قرون، لكي يصير الاقتراع عاماً للرجال وللنساء. الميدان يتقدم عليهم، وعلى الطبقة الرأسمالية العليا، في لحظة انعقاده. بعدها يعود الرأسمال الى مجاله الطبيعي، الدولة، القمع، التلقين الايديولوجي، والتباهي بأن لا حل غيره.
بدا بعد 2011 أن الرأسمال المالي لا بدّ أن ينتصر؛ انتصر وازداد القمع. لكننا لم نعد الى الوراء. بعد الثورة أصبح الرأسمال طريداً شريداً. اخترعوا له ما يُسمى الأوفشور؛ المجالات خارج الدولة. أما داخلها، فإن الثورة قد جعلت كل من في السلطة يتحسس رأسه وما إذا كان باقياً فوق رقبته. بضع سنوات من الخراب والدمار، لكن هذا الذي لا يمكن التنبؤ به. هذا الزلزال الذي لا نعرف متى يحدث، قد يحدث ثانية. برهنت الظروف لا بطريقة منطقية، بل بطريقة استدلالية أن هذه الأرض العربية التي صارت أشبه بالصحراء، بعد أن توسعت الصحراء الجغرافية، وتوسعت الصحراء السلفية، وضمر العقل، وتشوش الوعي، أن الزلزال يمكن أن يحدث مرة أخرى. وهذه المرة لن يبقى حجر على حجر. الرأسمالية لا تتعلّم من أزماتها، وبعضها يمكن أن يكون قاتلا. نحن نتعلم أو يجب علينا أن نتعلّم من هزائمنا. بمقدار ما نتعلّم يكون خلاص البشرية.
لدى الرأسمالية النيوليبرالية وصعوداً الرأسمال المالي؛ إزاحة الصناعات التي تتطلّب أيدي عاملة كثيرة الى شرق أسيا وغيرها. صعود المحافظين الجدد من جديد مع صعود الفاشية وبغض المهاجرين واعتبارهم تهديداً لوظائف، بالأحرى، لوجود الرجل الأبيض، حتى ولو كان في المراتب السفلى؛ تصاعد الخوف من الملونين. الخوف الذي يمثله الملونون، خاصة السود، على العرق الأبيض؛ اصطناع مشكلة الهجرة وتضخيمها؛ صعود اليمين الفاشي الذي يعود حتماً الى العنصرية، الخ… كل ذلك يدفع الى القول إن أنظار العالم المتمركزة حول منطقتنا، ليس مطمعه في النفط وتوابعه فقط. النفط عندنا تحت سيطرة شركات الرأسمال الأبيض، ومهمة دولنا هي حماية تدفقه وتلقي ريعه، مع بعض التوزيع طبعاً. الذي يجذب في منطقتنا هو في الأساس ضعفها على جميع الأصعدة الإنتاجية، أولاً، والعسكرية ثانياً، والثقافية ثالثاً.
ضعف المنطقة كان يؤهلها للخنوع والخضوع والاستكانة. لم يكن يؤهلها لميدان التحرير. اضطربت أجهزة الجيو-استراتيجيا حول العالم. ارتكبت المنطقة خطأ مميتاً. على الأجهزة الجيو-استراتيجية إعادة حساباتها. ميدان التحرير جاء من خارج السياق العالمي. سياق التحرير غير المرغوب فيه. أصحابه مستحقون للعقاب.