حول الأقليات والأكثريات
فكرة الأقليات، خاصة عندما تتلبّس بمطالب سياسية، تصبح على قدر كبير من الخطورة. تصيب الفكرة أقليات أخرى فتغار على نفسها من الأخريات. يتفتت المجتمع. كذلك الأمر بالنسبة للأكثرية؛ هي مجموعة أقليات. إذ ليس داخل الأكثرية انسجام ثقافي وسياسي أكثر مما بين الأقليات. عندما ينقسم المجتمع الى أكثرية وأقليات، تزداد احتمالات النزاع الأهلي. وعندما تنزع الأقليات نحو الانفصال عن الدولة تأخذ الأمور منحى حرب أهلية. لم تكن يوماً المطالبة بالحقوق لدى الأقليات والأكثريات سوى مزايدات سياسية. مطالب الأقليات هي مطالب الأكثريات. النظام نفسه الذي يظلم الأقليات يظلم الأكثريات. المواجهة في الأصل وفي المنتهى يجب أن تكون طبقية. لا يمكن الحفاظ على الدولة بغير ذلك. الأقليات والأكثريات تفتت الدولة، ولا تحول النظام الى دولة. الصراع الطبقي يوحد الدولة، إلا إذا اعْتُبِرَ صراعا طائفيا وهذا هراء، نادراً ما يحدث.
الذي انهزم حتى الآن في الوطن العربي هو فكرة القومية العربية. الفكرة التي تقول إن الأمة مكتملة أو شبه مكتملة الوجود، فيحصل التقدم. هي فكرة الأصولية الدينية متخذة تعابير ومصطلحات أخرى. فكرة ميتافيزيقية ذات تعابير عند القوميين تختلف عما عند أهل الدين السياسي. يُقال هذا الكلام عن أقليات وأكثرية لأن كل أكثرية تحوي بداخلها تنوعات وتناقضات، مما لا تعاني منه الأقليات، أو ربما تعانيه. ربما كان بعض الأقليات حصيلة التنوّع لدى الأكثرية فتحصل نتيجة انفصال أو اختلاف مذهبي أو غير ذلك.
فكرة الأقليات والأكثرية في المنطقة تافهة وخاطئة وفاشلة. ليس هناك أكثرية بل مجموعة أكثريات. ليس هناك أقلية بل مجموعة أقليات ضمن الأقلية الواحدة. لا يشكل الموارنة وحدة ثقافية أو سياسية أو اقتصادية. لا يشكل العلويون في سوريا وغير سوريا وحدة متجانسة. بل هم مجموعة أقليات.
حتى الآن لم تنجح فكرة الأكثرية في المنطقة، ربما لأنها لم تكن موجودة. لكن أفكار الأقليات كانت وما تزال موجودة. هي مهزومة أصلاً، وتؤدي الى مزيد من الهزائم. إذا كان المقصود بالعروبة أنها انتماء الأكثرية فهي غير ناجحة. فكرة القومية العربية جُرّبت وهُزِمت. لكنها حيث هزمت وجربت لم تؤد الى حروب أهلية كالتي نشهدها الآن.
لكن المسألة لا تدعو الى اليأس. المواجهة ليست بين الأكثرية (وهي وهمية) وبين الأقليات (وهي وهمية) بل هي بين المجتمع الحقيقي المتشكّل من كل هذه الأوهام وبين السياسة. السياسة الأقلوية تفرّق والسياسة بالمعنى الأسمى تجمع. هناك شعب يجيد السياسة وآخر لا يجيدها. نتعلّم السياسة لما فيه خيرنا. ذلك منذ أرسطو، وقبل ذلك، نتعلم الطائفية وكلام الأقليات لما فيه هزيمتنا. لغة الأقليات صعبة على الفهم بمقدار لغة الأكثريات. لغة السياسة هي الأقرب للفهم. في الهند أقليات كثيرة ربما نراها، والأرجح أننا لا نراها بسبب عدم معرفتنا بالعالم، وعدم انخراطنا به، رفضنا لثقافة العالم، رفضنا للغزو الثقافي، إصرارنا على تراثنا، إصرارنا على النقاء الثقافي، اصرارنا على النقاء الإثني، إصرارنا على أنّ ما قبل القومية يشكل القومية بشكل طبيعي، وأن القومية تطوّر طبيعي لما قبل القومية، هراء في هراء.
الولايات المتحدة بلد الأقليات. كل أقلية هي مجموعة أقليات. البيض أقلية متنوعة، والسود أقليات متنوعة. البروتستانتية مذاهب. الكاثولوكية إثنيات ومحاكم. الأديان الأخرى في الولايات المتحدة تقل عن 10% من السكان. السود يفوق عددهم ال10% بقليل. لكن الولايات المتحدة دولة يحكمها حزبان (أو أكثر أحياناً) بالسياسة والحوار والتفاوض والتواصل والتسويات. فرنسا كلها أقليات بما في ذلك الكاثوليك. كانت تتشكّل فيها حكومة كل بضعة أشهر، كما في لبنان، الى أن استجاروا بقيادة ديغول الذي غيّر الدستور. الأقليات ذاتها التي أدت الى وضع غير مستقر سياسياً في الخمسينات والستينات تحولت الى بلد مستقر مع تعديلات ديغول الدستورية. لم تحصل التعديلات الدستورية، وصولاً الى نظام رئاسي، إلا بالسياسة.
لبنان ليس مثلاً للبلدان الأخرى في التعايش. انعدام التعايش في لبنان هو ما يجب أن نخجل منه. نحن لسنا سويسرا الشرق. نحن إحدى مزابل التاريخ السياسية. لا نستطيع أن نتفق على أبسط الأمور، من جمع النفايات ومعالجتها، الى الكهرباء ومعالجتها، الى الطرقات وسكك الحديد. ومع ذلك نتباهى مثل الطواويس. كل طاووس يشكل ذنبه معظم جسمه. الفقعنة اللبنانية تمثل معظم عقل أو وعي كل واحد منا. هل يظن الداعون الى وحدة الأقليات في المشرق بوجه العروبة أن هذه الأخيرة غابت أو سوف تغيب عن الوجود بجهود الأقلويين الدونكيشوتية؟ ألا يظن هذا البعض أن الموارنة لديهم على مدى التاريخ، منذ أقدم العصور، مذابح بين بعضهم؟ لنكفّ عن وصفهم بالأقلية المتجانسة. كذلك العلويون. كذلك الدروز. ألا يظن هؤلاء أن كل مشروع أقلوي هو مشروع حرب أهلية داخل الأقلية. هل انعدم الحس التاريخي عند المثقفين من كل مذهب أو طائفة مما أعمى بصائرهم عن المآسي الداخلية والحروب الأهلية ضمن البيت الواحد؟ هذا إذا كان هناك بيت واحد. هل انعدم الحس التاريخي عند هؤلاء كي لا يروا أن الوحدة تتحقق بالسياسة (يفيد القول أن السياسة هي الحوار من أجل التسويات ومن أجل تراكم التسويات)، وتتحقق بالدولة التي هي إطار ناظم للمجتمع متى توفر الحس السياسي والممارسة السياسية. وهل انعدم الحس الأخلاقي لدى أبناء الطوائف ليدركوا أنهم يجب أن يتحاوروا ليتفقوا، وأن الحوار الحقيقي ليس الحاجة الى إثبات خطأ الغير، بل هو الحاجة ليثبت كل فريق خطأه، وليثبت أن لا تسوية ولا مصالحة ولا وحدة للبلد، أي بلد، إلا بأن يتخلى كل أبناء طائفة عن نفاقهم وعن الكلام المزدوج: كلام يتحدث به أهل الطائفة عندما يكونون لوحدهم، وكلام آخر عندما يجتمعون بأبناء الطوائف الأخرى. وهل الحس الأخلاقي سوى أن يتكلم المرء بلغة واحدة، بخطاب واحد، في السرّ كما في العلن. الأخلاق هي عندما تتكلم وتتخذ موقفاً حسب ما يمليه ضميرك، لا حسب ما تمليه الطائفة (زعيم أو زعماء الطائفة). كلما تخلى المرء عن ضميره لصالح الطائفة (الأقلية) أو لصالح زعيمها أو لصالح الدين الذي تستمد منه زخمها فهو يتخلى عن الأخلاق، يتحوّل الى منافق مسيّر لا مخيّر.
ألا يستحق العقل إعمال الفكر في تجربة الهند ( وهي تتشكّل من عشرات بل مئات الإثنيات واللغات) ومع ذلك تجري فيها انتخابات وتبادل السلطة كل أربع سنوات. أما باكستان الإسلامية الطابع فقد أصبح صعباً أن نذكر سلسلة الانقلابات العسسكرية المتتالية لكثرتها، ولم تستطع أن تكتب دستوراً (ما يسري فيها هو إعلان دستوري، إذ لا يستطيع مسلموها وهم أكثريتهم من السنة أن يؤلفوا دستورا دائما). وهل الصهيونية سوى غلبة الأقلية على الأكثريات، فلا تستطيع أن تعلن دستوراً. هي الأخرى تخضع لإعلان دستوري. في السعودية يقولون بحكم الشريعة. نرى مآسيها. لكن ما يجب أن نراه هو أن الاعتماد على الانسجام الثقافي للأقليات في كل من هذه البلدان هو صهيونية أخرى. الأصوليات الإسلامية والمسيحية واليهودية ( والهندوسية والكنفوشيوسية، الخ…) هي صهيونيات أخرى. الاعتماد على الثقافة (وهي كائن ميتافيزيقي يظهر حين اللزوم) يقود الى مآس كالتي نشهدها في منطقتنا.
في الولايات المتحدة، كما في الصين، كما في كل أميركا اللاتينية، تنوّع وأقليات، وتنوّع داخل الأقليات، مما يعرّض كلا من هذه البلدان للحروب الأهلية لولا السياسة. السياسة تجمع والاستبداد يفرّق. ما ألغى السياسة في بلادنا هو الاستبداد. وما هو التنوّع؟ ليس هناك شيء أجمل وأكثر غنى ومدعاة للتقدم من التنوّع؛ التنوّع بجميع أشكاله الثقافية والإثنية والمذهبية والطائفية. وما أبشع كل ذلك من دون السياسة.
السياسة جوهر الدولة. اعتمدنا على ثقافات موهومة. أهملت السياسة. انعدمت الدولة. كان بإمكان سوريا أن تعتمد الليبرالية التي ورثتها عن الانتداب الفرنسي، وأن تستمر فيها لولا تتالي الانقلابات العسكرية. الانقلابات العسكرية قادت الى حكم الأقليات. والكتل الثقافية الوهمية ألغت السياسة. لم يكن مقتل سوريا في تعدديتها، ومن جملة التعدديات داخل العروبة؛ بل مقتلها في غياب السياسة، وهو الوجه الآخر للاستبداد، وغياب حكم القانون، والأهم من ذلك تغييب الحوار. أول انقلاب في سوريا قام به حسني الزعيم، وكان نتيجة مؤامرة خارجية.
استبداد من فوق. وهناك استبداد من تحت؛ الاستبداد المجتمعي. الجماعة التي تراقب، أو بعضها يراقب، كل شذوذ عما تعتقده هو الشذوذ عن الدين الحنيف. أليس كل دين توليفة من التناقضات التي خالف أصحابها النص الإلهي، وربما الأمر الإلهي، لصالح أهداف سياسية مباشرة. لا مصلحة للأقليات أن يكونوا أقليات في ثقافة يزعمون أنها تجمعهم. مصلحتهم هي في الدولة ضمن الحدود المرسومة بالغلبة أو بغيرها. كل دولة تتأسس بالصدفة، وبالغلبة أحياناً وتستقر بالتقادم وبالسياسة وصولاً الى التقدم.
السياسة في جانب منها تجاوز. تجاوز لما نحن فيه الى ما يجب أن نكون عليه. ألم يحدد “ايمانويل كانت” الأخلاق (نستعيض عنها بالسياسة) بأنها ما يجب القيام به لأننا يجب أن نقوم به. ألم نتخلّ عن واجبنا تجاه السياسة، وفي النتيجة تجاه الدولة. الدولة مفهوم غائب عن وعينا. لم يؤسس البعث في سوريا والعراق دولة. أسس كل منهما بالاستبداد سلطة قمعية. جعل السلطة استحالة لقيام الدولة.
كان محمود درويش، الشاعر العظيم، يكره قصيدته “سجّل أنا عربي”. وعندما ذهب الى الجزائر للإلقاء، كان ينوي أن يتجاوز هذه القصيدة. الجمهور رفع الصوت مطالباً بالقصيدة. فألقاها على مضض وعاد كئيباً. الجزائري قومي جزائري وعروبي في الأن ذاته. البربر في الجزائر كانوا بربراً أيام الثورة. الاستبداد الذي تلا الثورة على الفرنسيين حولهم الى بربر-بربر.
الاستبداد ليس وافداً على مجتمعاتنا. هو معشعش فيها. السياسة تجعلنا نتجاوز الاستبداد وتحوّل السلطة في كل بلد عربي الى دولة. الدولة إطار ناظم للمجتمع (لنتذكر تجربة الهند الحديثة). هي ناظم للمجتمع بالسياسة وبالحوار وبتراكم التسويات. تتعرض الولايات المتحدة للحرب الأهلية لأن لها رئيساً ابتعد عن السياسة الى التحديات. ابتعد عن التفاوض طلباً للولاء. الولاء كالاستبداد يلغي السياسة. الولاء تبعية للزعيم سواء كان على خطأ أو صواب. يؤدي الى الفاشية. كتبت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كتاباً بعنوان ” تحذير: صعود الفاشية” عن سياسة ترامب. الكلام عن أقلياتنا هو في الحقيقة كلام عن فاشيات أخرى. (أما في الأكثرية السنية فهناك فاشيات متعددة، أقليات متعددة). تعددها من دون سياسة. يقولون أنهم يعتمدون الشريعة. نسوا قول الإمام علي عن القرآن أنه “حمّال أوجه”. التفسير الأحادي يقود الى حكم أحادي استبدادي. البشرية في القرن الحادي والعشرين تسير نحو الأحادية. ألا نرى حروباً أهلية، ظاهرة وكامنة، في كل مكان في العالم؟
هناك أكثرية وأقليات. لا تحكم الأكثرية بل تحكم الطبقة العليا فيها. الطبقات الدنيا في الأكثرية كما في الأقلية مضطهدة. غالباً ما تتحالف الطبقة العليا من الأقليات مع الطبقة العليا من الأكثرية في اضطهاد عموم الشعب. حين تتبدد الظروف السياسية يظهر للعلن تحالف سياسي يسمى تحالف الأقليات ضد نظام الأكثرية الذي كان في الأساس نظاماً أقلوياً على الصعيد الطبقي. الخلط بين الطائفي والطبقي يؤدي في غالب الأحيان الى تضييع الوعي والى جعل الضحية فاعلاً، والى تبرئة الطبقات العليا أو بعضها على الأقل. الحرص على الأقليات يستدعي التحليل الطبقي لا الطائفي. لا طائفة متحدة مهما كانت ظروفها. أكثرية المضطهدين هي من الأكثرية.
عندما نتكلم عن المضطهدين فإننا نعني، أو يجب أن نعني، معظم الناس من الطبقات الدنيا من الأقليات والأكثريات. لذلك فالحديث ضد الظلم والاضطهاد يجب أن يشمل حلفاً من جميع المضطهدين مهما كان انتماؤهم الطائفي، ضد السلطة. سواء كانت محصورة في طائفة واحدة، أقلوية أو أكثرية. إن حلفاً من الأقليات التي ربما بلغ عددها ربع السكان أو أقل هو احتمال لحرب طائفية، وربما حرب إبادة كي تتساوى الأعداد أو تميل نحو التساوي.
معنى هذا الكلام أن التحالفات يجب أن تكون طبقية وأن توجّهها يجب أن يكون ضد السلطة، لأي طائفة انتمت، وإن مبادئها يجب أن تكون ديمقراطية تأخذ بإنسانية المواطن وعروبته ضد تصنيفه سلفاً في هذه الخانة أو تلك.
كلام الرئيس ماكرون حول التمييز بين الوطنية والقومية يجب التوقف عنده وتحليله.