الاستبداد – تحالف الوهابية والبعث ١٧
لا يختلف البعث والوهابية حول مسألة الأمة. أحدهما يقول بالأمة الإسلامية وثانيهما يقول بالأمة العربية. جميعهم يقولون بوحدة الأمة العربية أو الإسلامية. لكنهم لا يعملون في سبيل الوحدة، بل نتج عنهما سيل من الحروب الأهلية. الأمة في نظر كل منهما كائن علوي وما حياة الشعب والمجتمع والأفراد والجماعات سوى تجليات الأمة. لا أهمية عندهما للناس بل للجماعة المسماة أمة. الناس أداة الأمة. الناطقون باسم الأمة الإسلامية هم الوهابيون والناطقون باسم الأمة العربية هم البعثيون. تعاونا وتحالفا في مختلف مراحل تاريخنا الحديث. وكل منهما احتقر المجتمع واعتبره وسيلة لأهداف أخرى. الهدف الآخر هو دائما استبداد الحاكم وطغيانه. كلاهما قبض على السلطة واستعان بالقوى الأجنبية وسعى الى مزيد من الخلاف الإسلامي أو القومي مع الجار الإيراني أو التركي وحتى العربي. تحالف مبني على الثروة النفطية وأدى الى حرب العراق الأولى والثانية وخسارة مئات مليارات الدولارات. وما كان باستطاعة أحدهما الاستمرار في السلطة لولا دعم الخارج.
هي بنية فكرية لدى الإثنين. والنتائج واحدة: الثورة المضادة ضد الثورات العربية والحروب الأهلية حيث لم يكن ذلك ممكناً.
في نظام الاستبداد، تسلّم أمرك للطاغية لا الى الله. ينزوي الإيمان في ضميرك، ويتوسّع أمر الطقوس كشكل غير مجد من أشكال الاعتراض. تشعر أن دينك يقبض عليه الطاغية. لا تستطيع القول إلا بما يقوله الطاغية، أو تحوّل كلامك الى أصوات لا معنى لها، حماية لنفسك. تمتنع عن التدخل في شؤون الدولة. تحتفظ برأيك لنفسك. الطامة الكبرى هي أن التكرار يدخل إرادة الطاغية الى ضميرك. يصير الطاغية صدى لكلام الطاغية. يبطل دور الأخلاق كإرادة نابعة من الضمير. يسيطر الاستبداد على الأخلاق وينتهكها.
هذا ما يؤدّي إليه شعار تطبيق الشريعة. تحويل ما لله الى الطاغية. يصير الطاغية مصدر الدين والشريعة. بما أن الإجماع صعب، بالأحرى مستحيل، يصير الدين في قبضة الطاغية. شعار تطبيق الشريعة يؤدي الى تدخل الطاغية فيه، بل والسيطرة عليه، وهذا ما لا يريده أصحاب شعار تطبيق الشريعة. يظنون أنهم يفرضون شعارهم على الطاغية، والواقع هو خضوعهم له وتسليم الدين له ولحاشيته.
تنشأ علاقة بين الاستبداد وأصحاب الدين، واحد ليحكم وآخر للتبرير الايديولوجي، مع تقاسم مغانم الحكم طبعاً. هل ان المسألة تتعلّق بعلمنة النظام أو غير ذلك؟ الموضوع هنا هو انعكاس الأمر على السياسة، وانعكاس هذه بدورها على الأخلاق. الفصل بين الدين والدولة، أو بين الدين والسياسة شيء يمكن أن يتمّ بكل دقة مع بقاء أحدهما تحت هيمنة الآخر. ميزان القوى سوف يفرض عادة هيمنة السياسة على الدين. يزول من الدين الإيمان، أو يتحوّل المعتقد الديني الى تبرير للسلطة. يتراجع دور الضمير الفردي. يتراجع دور الأخلاق. لا تفيد العلمانية في هذا المجال، إذ تبني العلاقات ذاتها. المطلوب أن يكون لدى المجتمع الاستعداد لوضع الدين في مجاله الخاص. مجال الإيمان الفردي، والتخلي عما هو جماعي إلا في مناسبات قليلة. يصعب تطور المجتمع مع بقاء هذا الدور الواسع للدين، حتى ليكاد يشمل جميع حقول النشاط الأخرى.
يتمسّك الناس بالدين لأنه ضمانة للأخلاق. الأمر ليس كذلك. ما دام الدين يحتلّ الساحة العامة، ساحة السياسة، وكل النشاطات الأخرى فإنه يفرض متطلبات العقيدة (وهي في الأساس ليست من صلب الدين، بل استجابة لدواع سياسية)، ويفرض متطلبات السياسة على الضمير الفردي. يحتفل الاستبداد بنفسه مع الدين في الشارع. ينزوي الفرد، ولا يبقى شيء من ضميره. لكنّ الضمير ذاته يُعطّل ولا يجرؤ على اتخاذ الأحكام. السبب هو أن نظام الاستبداد يريد إرضاء الناس، أو هو يظن ذلك. فيتعامل مع الدين. ويخرج الدين بالمقابل بالتبريرات له. يكون موضوع النقاش هو ما يتعلّق بعدة الشغل لدى رجال الدين. وهم قاصرون جدّياً عن مناقشة أمور المجتمع. العدة الفكرية لديهم لا تكفل لهم النقاش بكفاءة في الاقتصاد وحركة السير وعلاقات المجتمع والإستراتيجية الدولية. لكن استخدام رجال الدين في مهام تتعلّق بالدولة لا تنزع من ذهنهم فكرة أنهم عالة على المجتمع، وإن عددهم يجب أن يضمر ليصير رمزياً، وأن الأمر الديني الحقيقي هو بين الفرد والذات الإلهية. وهذا موضوع لا دخل فيه لرجال الدين، ناهيك عن أهل السياسة. في الحقيقة لا لزوم لرجال الدين في المجتمع سواء تحالفوا مع النظام السياسي أم لم يتحالفوا معه. كل العدّة الفقهية لا تلزم في هذا العصر. هم يبحثون في ما لا يلزم. كونهم يشكلون جزءاً أساسياً من النخبة ومن الذين لا ينتجون، ويعيشون على الفائض الاجتماعي، مما يجعل وجودهم ضاراً على المجتمع. هم ليسوا حراس الدين. الضمير الفردي وحده يحرس الدين. هذا لا يعني قمعهم أو إزالتهم، بل يعني أن يكون لهم دور يتناسب مع القيمة الزائدة التي يستطيعون تقديمها للمجتمع. أو يمكن اعتبارهم منظمة غير حكومية أخرى.
إذا كان رجال الدين لا دخل لهم بقضايا الإيمان، على أساس أن هذه فردية وحسب، فإنهم على الأرجح تنظيمات احتفالية تدخل في باب الطائفية وحسب. لا يستطيع رجال الدين من جميع الأطياف تأكيد دور لهم إلا من خلال انتظام “المؤمنين” في تنظيمات اجتماعية تسمى طوائف. الإنتماء للطائفة لا يعني مطلقاً قضايا الإيمان. بالأحرى تمثّل الطائفة أقصى درجات الديكتاتورية، إذ أن كل فرد مجبور، من دون إرادة منه، أن يقيّد في سجل طائفي منذ أن يولد. لا خيار لأحد في ذلك. وإذا شبّ هذا الفرد وأعلن عن اقتناع آخر بغير الطائفة المسمّى فيها، فسيمارس عليه جميع أنواع القهر والقمع.
مشكلة الطائفية في بلادنا أن الأفراد ليس لهم الحرية في الانتقال من طائفة لأخرى. وليس لهم الحرية في اختيار طائفتهم. تحوّلات الضمير عندهم لا علاقة لها بالتحوّل الطائفي. يُقال عند المسلمين أنه يكفي كي يصير الإنسان مسلماً أن ينطق بالشهادتين أي أن يعترف بالله. ومن غير الضروري بالنسبة للدين وجود المرء في طائفة أو تكفير من يترك طائفته الى أخرى، أو تكفير من يدعو الى إزاحة أعمال الطوائف خارج نطاق الدولة والسياسة.
لم تنشأ الطائفية إلا بمبادرة النظام السياسي. هي احدى أشكال القمع السياسي. لا تتعلّق بالدين. يسرع رجال الدين لتقبّل هذه المهمة وممارستها. ولا يدركون أنهم بذلك يطبّقون مبادىء السياسة على الدين. في هذه الحالة يحصل الطلاق بين الدين والأخلاق، إذ تفقد السلوكيات والمواقف علاقتها بالضمير الفردي وانبعاثها منه، وينتشر النفاق والكذب. لا تنشأ الطائفة إلا على قاعدة النفاق وانعدام الأخلاق. والمسألة هي أن الدين يتعلّق بالأخلاق ويحتكرها، ويعمد الى إلغائها. المسألة هي التناقض الحاصل بين الطائفية والأخلاق. ينسحب ذلك على الدين ليصير نقيضاً للأخلاق. وتبقى السياسة الأكثر نباهة ونزاهة في التعامل مع شؤون الناس. في الطائفية يفقد الدين الأخلاق. في كل طائفية دينية أو إثنية يتلاشى دور الأخلاق. لا أخلاق في أي قطيع من أي نوع كان. الأخلاق في تذرير القطيع، وعندما يتحوّل الناس الى مواطنين في دولة. المواطن هو من يصنع الدولة والأخلاق. بناء الدولة يعني المواطنية والأخلاق. انعدام الدولة يعني انعدام الأخلاق وتخثّر الدين وفقدان الروحية، ليصير مجرّد طقوس تُردّد ميكانيكياً، بفهم أو من دون فهم.
لا بدّ من تحويل الطائفة الى NGO آخر من دون معنى سياسي. يستطيع الفرد حسب إيمانه الانتقال من طائفة لأخرى ومن ديانة لأخرى. يبشّر بآرائه كمواطن لا كعضو في طائفة.
الفساد في لبنان مضاعف لأنه وليد رأسمالية النظام، ولأنه وليد طائفية النظام. في الرأسمالية والطائفية لا قيمة للضمير الفردي. الرأسمالية تعلّم الفرد الأنانية والمصلحة الشخصية كيفما أتت. والطائفية تبرّر له ذلك، معلنة أن الطوائف الأخرى يفعلون الشيء نفسه، وبالتالي سوف يكونون السبّاقين ان لم يلحق بهم الآخرون. مصلحة الطائفية أولاً شعار يعني أن من يسرق يخدم الطائفة.
يعلّم الاستبداد التخلي عن الضمير، ويعلّم الدين السياسي والطائفية التخلي عن الضمير. في الاستبداد لا قيمة للضمير الفردي؛ ليس الفرد حراً في أن يكون له رأي. في الدين السياسي والطائفية، تتحوّل مصلحة الطائفة فوق كل شيء. يزعم أتباع الطائفة انهم أميز من غيرهم، وأن غيرهم هو الفاسد الفاسق.
تحالف الاستبداد والدين يجعل كلا منهما صدى للآخر. يستعير أساليبه في الضغط والقمع. وينزل عليهم بقوالب فكرية جاهزة تؤدّي الى إغلاق المجتمع. ليس الدين للأخلاق والاستبداد للسياسة. كلاهما يلغي السياسة والدين الروحي أي الأخلاق. لا يُنتظر الكثير في مجتمع فاقد السياسة والأخلاق، أي مجتمع لا يستطيع إدارة شؤونه بواسطة السياسة، مجتمع ينظر كل واحد فيه الى الآخر نظرة الحريص على سرقته، بفقدان الأخلاق.
حصل هذا التحوّل الكبير في المجتمعات الإسلامية مع ظهور النفط في الصحراء العربية خلال منتصف القرن الماضي. موّل الاستبداد والدين السياسي، ودعم موقفهما وجعل لهما سطوة على العقول. اجتماع التطرّف الديني (الوهابية) والاستبداد في العالم الإسلامي هو غزو من الداخل. مع الغزو الوهابي سادت التفاهة التي ينتجها الاستبداد، أو العكس. مجتمع يغزو نفسه من داخله، ينغلق على نفسه، لا يحتاج الى غيره. نجح الاستبداد مع الدين السياسي في تحقيق ما فشل به عن طريق القومية. سادت موجة النفاق مع التديّن. هذا هو الشكل الوحيد المناسب لدين يعتمد على المال، لا على المجتمع وعمله وإنتاجه. نيوليبرالية الدين حلّت مكان الدين التراثي. تحل النيوليبرالية، وهي أصلاً وليدة أزمة الرأسمالية العالمية، مكان سويّة الدين التقليدي. دين جديد مكان الدين التقليدي. ساد التديّن الطقوسي مكان الإيمان، وتسيّد مبدأ التكفير والشكوك تجاه الأديان الأخرى والعداء لهم. في عالم نيوليبرالي تتوسّع فيه الفرق المتطرّفة لكل الأديان والدين السياسي المتحالف مع الاستبداد.
منذ أن رسّخ هذا التحالف وضعه في السبعينات، أصابت المجتمعات الإسلامية حروب متكررة مدمرة. ازداد تخلفها بزيادة الدمار في أرضها. كان، وما يزال، لهذا التحالف أثار كارثية. تحالف مكرّس لمعالجة قضايا المنطقة بعقول سخيفة تافهة فاقدة كل سوية عقلية.
الاستبداد والتطرّف الديني وجهان لعملة واحدة. كلاهما يستخدم الأساليب نفسها لقمع الناس والتعبير عنهم بطريقة تفيد النظام القائم، سواء كانا يعارضان بعضهما أم لا. إن مهمة كل منهما هي إنتاج الحرب الأهلية كي يبدو النظام حديثاً وكي تستميل قوى الدين السياسي العصبيات الدينية عند الجماهير. يراد لهذه المنطقة أن تستمر في حرب أهلية لسنوات طويلة وإن لم يكن عقوداً. والطرفان مسؤولان عن تنفيذ المهمة. لذلك فإن مطالبة الجماهير الجزائرية والسودانية في الميدان بإسقاط النظام، كل النظام، هي مطالبة محقة. يبدو أن هذا الأمر صار واضحاً لدى الناس.